بين عامي 1935 و1975، نشر ويليام دورانت وزوجته أريل سلسلة من المجلدات حملت جميعا اسم «قصة الحضارة». سرد الاثنان قصة الحضارة الإنسانية (وإن غطى غالبيتها الحضارة الغربية) بوصفها تراكما للأفكار والابتكارات العظيمة، بدءا من المصريين القدماء، مرورا باليونانيين، ووصولا إلى الماغنا كارتا (أو الميثاق الأعظم)، ثم عصر الإيمان فعصر النهضة، ثم إعلان حقوق الإنسان. وحققت السلسلة نجاحا غير مسبوق، حيث بيع منها أكثر من مليوني نسخة. وضعت السلسلة قصة الحضارة الغربية في كبسولة، تلك القصة التي تناقلتها ألسنة الناس، خصوصا في أوروبا وأميركا الشمالية، طوال القرون الماضية، لكي يتبينوا موقعهم من العالم ومن الزمن الذي يعيشون فيه. كان هذا السرد تقدميا إلى حد بعيد، فقد كانت هناك رموز عظيمة مثل سقراط، وأراساموس، ومونتسيكيو، وروسو، وجميعهم ساعدوا في حث الشعوب على الارتقاء لمراتب أعلى من المثل الإنسانية. تضمن سرد قصة الحضارة الغربية مبادئ محددة، أكدت أهمية شرح الأسباب، وصيانة حقوق الملكية، والحاجة إلى حالة التقاء عامة ملمة بشؤون الدين، لكنها غير مهيمنة نظريا. ووضعت السلسلة معايير ثابتة لما يجب أن يكون عليه رجل الدولة. تناولت السلسلة أهمية التنوع البشري، وفي الوقت نفسه الإحساس بتولي مسؤولية مشتركة واستخدام مفردات مشتركة، ووضع إطار للجدل السياسي، والأهم أنها عرضت عددا من الأهداف المشتركة. وفي العقود الماضية، بدأ الناس، خصوصا في الجامعات، يفقدون إيمانهم بقصة الحضارة الغربية، وتوقفوا عن تدريسها، وبدا وكأن الحزام الثقافي العظيم الناقل لتلك القصة قد انقطع، فما يتلقاه الطلاب الذين يصادفون هذا الموضوع في دراستهم وما يتعلمونه أن الحضارة الغربية ما هي إلا تاريخ من القمع. المدهش هو التأثير بعيد المدى لهذا التغيير، إذ تبدو الحال وكأن الرياح القوية التي كانت تحرك جميع السفن في البحر توقفت فجأة عن الهبوب. والآن ظهر كثير من الأعداء المتفرقين لتلك المبادئ الغربية، ومن الواضح أنه لا يوجد هناك من يدافع عنها. النتيجة الأولى كانت ظهور فئة من غير الليبراليين والفاشستيين الذين لا يؤمنون بقيم وقصة الحضارة الأوروبية فحسب، بل أيضا بمبدأ الديمقراطية من الأساس، كما كانت حال الطغاة في الماضي. لعقود طويلة، تجمعت أحزاب اليسار الوسط واليمين الوسط حول أمثلة مماثلة للرأسمالية الديمقراطية التي أشارت إليها الحضارة الغربية. غير أن كثيرا من هذه الأحزاب ومنها حزبا العمال في بريطانيا وهولندا أوشكا على الانهيار، وبدأت الأحزاب الهامشية في الظهور. وفي فرنسا، ربما تكون مارين لوبان، مرشحة اليمين المتشدد، وجين لوك ميلينكون، مرشح اليسار المتشدد، المرشحان الأخيران في السباق الرئاسي. فلمارين لوبان آراء غير ليبرالية فيما يخص النقاء الوطني، فيما يعد ميلينكون سياسي ديمقراطي يسير على نهج هوغو تشافيز. لو أن هذين المرشحين وصلا للدور النهائي سيقع الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، أكبر قوتين ليبراليتين في أوروبا الحديثة، في أزمة حقيقية في الحال (وصلت لوبان للدور النهائي حسب نتيجة الانتخابات الفرنسية - المحرر). وفي النهاية، هناك أيضا انهيار القيم الليبرالية داخل بلادنا، ففي الجامعات الأميركية يقوم بلطجية يعتبرون أنفسهم طلابا بالصراخ والسب أمام المتحدثين في كل ندوة أسبوعية تقام داخل حرم الجامعة. فقط اقرأ ما كتبه هيثر مكدونالد على صفحته الشخصية عن التشهير به في كلية «كلارمونت ماكينا كوليدج»، لتعرف أنك أصبحت تعيش في عالم من عدم التسامح يقشعر له بدنك. ففي الولايات المتحدة تشعر وكأن النسيج الأساسي للحكومة المدنية آخذ في التآكل بعدما تراجع الإيمان بالقيم الديمقراطية. فبحسب دراسة نشرت في صحيفة «ذا جورنال أوف ديمقراسي»، فنصيب الفرد من الديمقراطية الحقيقية بالنسبة للشباب الذين يرون أنه من المهم أن تعيش في دولة ديمقراطية تراجع من 91 في المائة في الثلاثينات من القرن الماضي إلى 57 في المائة اليوم. ففي الغرب، انهار الإيمان من الداخل، لكن الغريب رؤية التباطؤ الشديد للناس في الدفاع عنه. قلة قليلة هي الأصوات التي علت للدفاع عن إيماننا بتلك القيم، فأندرو ميتشل كتب مقالا في مجلة «أميريكان إنتريست» يرثي فيه تراجع الثقة بالغرب، فيما كتب إدوارد لوس رأيا مطولا في هذا الشأن في كتاب صدر تحت عنوان «تراجع الليبرالية الغربية». لكن في الحقيقة، الليبرالية نفسها بدت طيعة في الدفاع عن نفسها. وحاليا، فإن فكرة الحضارة الغربية برمتها تبدو رجعية واستبدادية. وكل ما أستطيع قوله هو لو أنك تعتقد أن الحضارة الغربية رجعية واستبدادية بالفعل، فقط انتظر لترَ حال العالم والأعباء المترتبة على ذلك لاحقا.