لا يكاد عدد سكان الشُلُك يزيد على المائة ألف نسمة كثيراً، ومع ذلك فإن لهم في المجموعة النيلية مكاناً ممتازاً، وذلك لأنهم يُكوّنون شعباً متميزاً قائماً بذاته، لا ينقسم إلى قبائل، وأوطانه مندمجة متلاصقة بحيث تكون وحدة سياسية واجتماعية وثقافية، ومن عاداتهم الغريبة: تراجيديا قتل الزعيم وتنصيب آخر مكانه، وزواجه من حسناوات القبيلة.. فقد تزوّج أحد زعمائهم مائة فتاة وأنجب 750 من الأبناء والأحفاد، وقُتل بيد زوجاته المائة! نياكانق، البطل المُقدّس ثمة اعتقاد بأن الشُلُك قوم نزحوا من إفريقيا الشرقية تحت إمرة بطلهم المقدس: نياكانق، وهو في نظرهم يحتل مرتبة وسطى بين الإنسان والإله، على أن هناك مَنْ يرون أن الشُلُك نزحوا على وجه التحديد من كينيا وأوغندا في القرن الثالث عشر الميلادي فجاؤوا إلى موطنهم الحالي... لا أحد يدري سبب هذه الهجرة، بيد أن بعض الأقوال تشير إلى أن بطلهم نياكانق قد استبد به الغضب عندما عُيّن أخوه ملكاً دون الرجوع إليه، عندها قرر أن يرحل، وقد رحل بالفعل إلى الوطن الحالي بجنوب السودان عن طريق بحر الغزال، ورغم تعدد الروايات عن أسباب الهجرة إلا أنها تتفق كلها على أن نياكانق قد هاجر من موطنه الأصلي إلى موطنه الحالي برفقة أهله وأتباعه طلباً لمملكة يحكمها وحده! ويُعدّ نياكانق هو البطل المقدس لديهم، وهو قائدهم ورمزهم العظيم الذي يمثل روح القبيلة، فهم يتحدّثون عنه في أساطيرهم وتراثهم الأدبي الشعبي بفخر وعن قواه الخارقة ومقدرته الأسطورية.. إذ كان يثير الرياح والزوابع ويأتي بالمطر الغزير ويبارك الزرع فيأتي بالحصاد الوفير، كما أنه يبسط حمايته على الأرض حارساً وراعياً أميناً. ويقولون إنه انتصر على كل القبائل التي مرّوا بها في طريق هجرتهم، وأنه انتصر على الشمس عندما اعترضتهم وهم يهمّون بعبور بحر الغزال إذ مالت الشمس عليهم واشتدّ وهجها وسلطت عليهم شواظها، فما كان من نياكانق إلا أن أمسك بحزمة من الأرز البري الذي كان ينبت على الشاطئ فغمسها في ماء النهر فرَشّ بها الشمس الملتهبة فخبا وهجها وتراجعت حرارتها وسكنت باردة مستسلمة. ومن معتقداتهم أنه لم يمت، بل تبخّر في الهواء في شكل دخان وذلك حتى تبقى روحه ترفرف على القبيلة حارسة وراعية لها، ومن ثم فإنهم يجيؤون برمز البطل الأسطوري نياكانق كي يسبغ على «الرثّ» الجديد روحه وتحل فيه فيكون «الرثّ الجديد» كما كان – نياكانق قوياً يحمي كل القبيلة. الويل للزعيم إن ضعف! ويتم اختيار «الرثّ» ملكاً متوجاً وفق قواعد مرعية، فهو مثلاً لا بد أن يكون منحدراً من سلالة العائلة المالكة – عائلة البطل المقدس: نياكانق، وأن يكون سليم البنية وبلا أي عيب جسماني، ولهذا فإنهم إذا مرض الرثّ أو ضعف ولم يعد قادراً على تحمُّل أعبائه، أو إذا أشرف على الموت ساعدوه ولا يتركونه ليموت موتاً طبيعياً لأنهم يعتقدون أن الرثّ لو قُدّر له أن يموت موتاً طبيعياً فإن ذلك يضعف روح نياكانق الثاوية في جسده.. وكل ملوك الشُلُك لم يموتوا موتاً طبيعياً. إن الرثّ له موقع الألوهية والملوكية، فهو يلعب دوراً إلهياً مثلما يُصرّف أعباء المملكة، ولذا فإن الرثّ يتكتم على تصرفاته الشخصية ولا يظهرها أمام الرعية. نعم، الويل كل الويل إذا تعرّض الرثّ للوهن أو الضعف، وإذا حدث ومرض ولم يعدّ يقوى على أداء عمله فإن مصيره المحتوم ينتظره، إذ تأتي أكبر نساء القبيلة سناً وتدخل عليه وهو في سرير المرض وتخنقه حتى الموت، وفي تلك اللحظة يقام احتفال ضخم لتنصيب الرثّ الكبير وتُغلق أبواب الكوخ على الرثّ القديم ليتحول كوخه إلى مقبرة من دون أي احتفال جنائزي ويُدفن في مقبرة خاصة.. والويل للرثّ إذا هرَم أمام خصمه، فلا أحد يبكي عليه، ولا أحد يدافع عنه – وإنما يصفّقون للرثّ الجديد. مراسم التنصيب وهناك مراسم خاصة لتنصيب الرثّ، فهو يدخل مع موكبه لإجراء الحمّام التطهري، ثم يُحلَق له شعر رأسه ويؤتى بالكرسي المقدس محجوباً بستارة بيضاء ومحمولاً في تؤدة، فيجلس الكاهن على الكرسي حاملاً رمز (نياكانق) ثم يلبس زي التتويج الكامل والمكوّن من جلد الظبي النادر، وجلد الفهد والأسورة العاجية على الذراعين والرسغين والخرز وعقود بيض النعام، وما أن يجلس حتى تُدق الطبول المقدّسة بأصوات عالية، ويرفع الكاهن صوته مردداً التراتيل والتعاويذ الطقوسية بين مباركة الشيوخ والمحيطين، وحال انتهاء تلقّي التحية يحمل وفتاته إلى بناء أقيم خصيصاً عبارة عن أكواخ من القشّ مخروطية الشكل لقضاء ثلاثة أيام فيها، يخرج بعدها لممارسة سلطاته. ويعتبر الزعيم السلطة السياسية والقضائية والروحية لدى القبيلة، وله الحق في الزواج ممن يريد، فقد تزوج (وريانق) مائة من أجمل حسناوات قبيلة الشُلُك، فالزواج هنا يتم عن طريق نظرة الرثّ إلى جميع الراقصات في استقباله عند زياراته إلى أفراد القبيلة، فإذا أعجبته إحدى الفتيات طلب من مساعديه وزوجته الكبرى إحضارها في المساء، وهي لا تستطيع رفض طلبه لأن الرفض يعني جلب الأمراض والكوارث لها ولأهلها.. لذا يتم إعلان الزواج رسمياً، ويقوم بدفع مائة رأس من البقر لوالدها، ولا يحق لها الزواج بقية عمرها إلا من الزعيم الذي يليه إذا ما رغب في ذلك، وقيل إن عدد أبناء وأحفاد الرثّ «وريانق» بلغ أكثر من سبعمائة وخمسين – لكنه قُتل على يد زوجاته المائة.