سوزان كاظم / سهل النعمان تتعاقب الفصول الأربعة في الطبيعة والحياة تُجدد معالمها في قصّة وجود الكائنات ولا تُبالي السُنن الكونيّة بهرطقة العقل البشري عندما يحاول العبث بأقدار التكوين . التاريخ لم يسجّل لنا متى شقت الأنهار طريقها لتشكل شرايين على سطح الأرض , ولا أحد يعلم شيئا عن القوة العظمى التي تحرّك ديناميكيّة الكون أو شيء عن جدل الإرادة في أدق تفاصيل الذرّة . إن أخطر عمليّة بناء هي التي تفرض تراكم المواد والتشييد داخل العقل بما لا يستند إلى مقومات الحقيقة علميّا ومنطقا , وهذا الخطر هو الفارق الجوهري الذي ينتج الفشل والانهيار الذي تتعرض له الأمم والأفراد أو الجماعات التي تطوف حول بناء كعبتها . الوعي لا يساوي الأنا ومن بعدي لا شيء ولا أمتي أو قبيلتي وبعدها الطوفان , هذا الوعي الذي حاولت الفلسفة تعريفه مجرّدا عن محيطه الحسّي فلم تفلح لأنّه لا يشكل مادة مستقلة وقائمة بذاتها إلا في تأملات هيغل المثاليّة الذي حاول أن يمنح الوعي البشري امتياز عن باقي الأحياء بأنه يعي ذاته ولكنه لم يفكر بالفارق الذي يمكن أن يساوي بين المجنون الوديع وباقي الأحياء وبين وعي المستبدّ بوحشيته ووعي الذئب , أما الشعور ووسائل الإدراك فهي تكاد تتساوى في الأحياء فما هو الفارق بين الإنسان وبينها جميعا ؟ , لاشيء يثبت فرقا في التكوين المادي ولا توجد اختلافات في التعقيد البيولوجي لطبيعة الخليّة الحيوانية ولا حتى ثمة فوارق في الجهاز الهضمي مع كثير من الأحياء , لا شيء سوى فرق كوننا جنس من أجناس الكائنات الحيّة ولدينا امتيازات متفوقة سمحت لنا أن ندجّن كثير من الأحياء ونستعبدها لصالحنا . وبعد الفارق الخلقي والنوعي نأتي إلى الفارق العقلاني , والحق أن هذا امتياز يرقى بالكائن البشري إلى ذروة الشرف بأعلى عِليّين في إنسانيته وأخلاقياته ثم ينحدر فيه إلى أسفل سافلين في وحشيته ورذائله ,أجل هو العقل ولكنه ليس خليّة الدماغ العصبيّة التي تتكيّس بغشاء السّحايا وتحتمي بالجمجمة والتي يمكن بحال ما أن نقبل تعريف الفلسفة الماديّة بنسختها الماركسية على أنه صورة معقدة من صور التطور التاريخي للمادة , ونرفض قطعا أن ينطبق هذا التعريف على العقل ؟ ذلك لأن الفلسفة التي تعجز عن تفسير ظواهر عقلانيّة تتحدى المنطق لا يمكن أن نقبل حكمها على كيان العقل بفرض رؤيا من زاوية ضيّقة وعاجزة أن تفسّر لنا ماهيّة المادة نفسها . كذلك لم تمنحنا المثاليّة شيئا يطمئننا عن العقل وهي تسرح في ميتافيزيقيّة استنساخ الخيال ولا تستطيع أن تعطي المنطق أية إضافة في الألوان والأطعمة والروائح التي تتعامل معها حواسنا في الطبيعة . أن هندسة الكون وطاقاته وتجلياته الجماليّة والروح العظمى التي تتخلل كل شيء في معالم الطبيعة المشهودة والغائبة عن مداركنا هي العقل العظيم . أمّا الوعي فهو حالة وظيفيّة جزئيّة لا تعدو أن تساوي شيء في سلسلة الوظائف الحياتية التي تجري في ذواتنا بلا وعي . ما يمكننا أن نقوله إجمالا أن الفلسفة التقليدية بشقيها المادي والمثالي تتراجع أمام المنطق العلمي في البحث أو إطلاق الأحكام والتنظير, وبحدود التطور التقني لوسائل الرصد أو التحليل المختبري يكون العقل قد أضاف أدوات لوسائل إدراكه , أمّا السلبي في هذا الاتجاه فهو الإسراف العلمي الذي أنتج مؤسسات علميّة وعقول تنغمس في البحث لتكون أدوات استثمار في مجالات مدمّرة مثل صناعات السلاح والتجارب البيولوجية السريّة وغيرها والأكثر سلبية أن يكون معيّار التقدم الحضاري وفق قياس هذا الإنتاج واحتكاره . أن مصطلح العقل العظيم لا يجوز تقييده لحساب الأفراد ولا جنس بعينه من الأجناس ولا حتى احتكاره في حقبة من حقب التاريخ الإنساني لأن هذا العقل قابل للتطور بلا حدود للمكان والزمان ومع كل هذا وذاك يبقى معلولا لمعالم التكوين والتجليات العظمى التي تمدّه بالحياة . إذا حاولنا فهم أي ظاهرة أو حالة تاريخية فلابد أن ندرس محيطها وسياقها لكي ندرك حقيقتها وخلاف ذلك فلن نفهم شيء عن تعقيد العلاقات الكائنة بين الأشياء , وربما من هذه الملاحظة بدأت البراغماتية في منطق البحث داخل القضايا لفهم الروابط التي تحكم مسار الأشياء وما تؤدي إليه من نتائج . ولا غرابة أن يتفوّق العقل الغربي في اعتماد هذا المنطق على كل الأصعدة وخصوصا في الإدارة والسياسة ., ثمّة جانب لا يدنو أهميّة في حدود التأمّل وإعطائنا تفسيرا للأشياء بمنهج مستقل عن منطق البحث العلمي ؟ هو الدين بلا ريب في روايته لقصة التكوين , واستنادا إلى ما تنزّل في القرآن المجيد وحسب الشرح المتواتر في حديث النبيّ محمدا فأن أول ما خلق الله هو القلم الذي هو أول عقل وأن الله سبحانه وتعالى أمره أن يجري فجرى بما كان وسوف يكون ؟ وأمّا مداد هذا القلم أو ما نسميه مادة الكتابة فهو العلم بفيضه النوراني الذي تجلى بالكائنات ؟ هذا ما سوف نتعرّض له في عرض لمقالة أخرى ., إن التراث العلمي وكل الحضارات التي أنتجها العقل البشري لا يمكن أن تتجرد عن محيطها الإنساني وأن تحتسب امتيازا لعرق من الأعراق أو جنس بشري بمعزل عن إسهام باقي الأجناس ولا شيء يدعونا للفخر أكثر من الترقّي بوعينا الإنساني …