السادات وعبدالحليم حافظ ومصائر أخرى سعد القرش منذ أيام ذكّرت أستاذتي عواطف عبدالرحمن برد فعلها العنيف معي قبل نحو ثلاثين عاما، وكادت تطردني من محاضرة مادة «مناهج البحث»؛ لأنها لمحتني في حالة سَرَحان. كنت أنظر ولا أرى مفكرا في مصير بطل قصة قصيرة قيد الكتابة وقد نشرتها في ما بعد مجلة «إبداع» وكانت المكافأة 26 جنيها بعد خصم الضرائب. تشغلني المصائر المفترضة تحيّرني وتدفعني للعيش في الدراما فأتخيّل تاريخا آخر ينهض على مسارح أكثر أمانا، «لو» اختلفت مصائر بضعة أشخاص أدى حكمهم ثم موتهم إلى حروب أهلية مذهبية وحدودية وكونية أزهقت أرواح العشرات من الملايين. هتلر، ستالين، الخميني، صدام. المصير ليس حتمية تاريخية، أحيانا يكون مصادفة يصنعها فشل تحقّقٍ يورث الرغبة في الانتقام. ماذا «لو» كسبنا أنور السادات ممثلا؟ تلك رغبته القديمة، في عام 1935 استجاب لطلب مجلة «فصول» ممثلين لفيلم تنوي إخراجه أمينة محمد (1908-1985)، وأرسل صورة نشرت مع التعريف «أنور السادات أفندي ـ كوبرى القبة. أنا شاب متقدم للبكالوريا هذا العام، طويل.. وسطي رفيع جدا.. وصدري مناسب.. وسيقاني قوية مناسبة.. أنا متحكم في صوتي بمعنى الكلمة، فتارة تجدني صوت يوسف وهبي، وتارة تجدني أقلّد أم كلثوم، وهذه خاصة أجدها نادرة.. لي شعر طويل أسود ومجعد.. ولكنه خشن. وبقية أعضاء وجهي كما في الصورة المرسلة طيه». وبعد 35 عاما استدعى موهبته وطورها وأجاد «تمثيل» الدور أكثر من أيّ رئيس «حقيقي». في عام 1935 أيضا، أدى الطالب جمال عبدالناصر دور يوليوس قيصر في عرض قدمته مدرسة النهضة المصرية لمسرحية شكسبير برعاية وحضور وزير المعارف العمومية أحمد نجيب الهلالي الذي عين رئيسا للوزراء في 22 يوليو 1952، وشهد فجر اليوم التالي تاريخا جديدا عنوانه عبدالناصر، وانتظر صديقه سيد قطب أن يعين وزيرا للمعارف أو على الأقل مديرا للإذاعة، ولكن دراما الأشواق المجهضة صارت تراجيديا نزيفا داميا عابرا للقارات، تنفيذا لوصايا قطب في كتابه الأخير «معالم في الطريق»، طريق توعّد المشتاقُ أن يفرش بالدماء والجماجم، وبدلا من حصد روح عبدالناصر عام 1965 استقرت رصاصة «المعالم»في عنق السادات يوم 6 أكتوبر1981.عمليا كان حسني مبارك معزولا من منصب نائب الرئيس وأجّل السادات عزله رسميا وتعيين منصور حسن نائبا إلى ما بعد الحفل الذي حضره مبارك بشكل بروتوكولي. ولكن مشهدا كتبه سيد قطب ونفذه أولاده في 50 ثانية غيّر المصائر. قبل ثورة 1952 أرّق عبدالناصر مصيرُ أحمد عرابي. ولو فشلت الثورة لحوكم الضباط، ومعهم السادات الماكر بتحايله السينمائي وافتعاله مشاجرة في السينما وإصراره على تسجيل محضر. وهم احتاطوا للأمر وجعلوه يقرأ في صباح الثورة بيانها الأول. لو فشلت الثورة فلا أستبعد أن يصير عبدالحليم حافظ مطرب الملك فاروق وله تاريخ «ملكي» قصير غمره الطوفان الثوري. بحكم حداثة سنه، لم يتح لعبدالحليم إلا تقديم أغنية واحدة للملك وهي الأغنية السابعة في مسيرته. يذكر نبيل حنفي محمود في كتابه «الغناء المصري: أصوات وقضايا» أن عبدالحميد توفيق زكي مسؤول برنامج «ركن الأغاني الخفيفة» الخاص باكتشاف المواهب في الإذاعة المصرية اكتشف صوت عبدالحليم شبانة ولحّن أغنيته الأولى «ذكريات» التي أذيعت مساء الاثنين 5 مارس 1951 ولحّن زكي قصيدة «تهاني» للشاعر محمد عبدالغني حسن، وهي الأغنية السابعة لعبدالحليم شبانة وأذيعت مساء الخميس 3 مايو 1951 في مدح الملك فاروق ضمن برنامج خصص للاحتفال بعيد الجلوس الملكي. تغير لقب عبدالحليم في 9 يونيو 1951، مع إذاعة أغنية «شكوى» باكورة تعاونه مع كمال الطويل الذي سيفاجأ بعد حرب أكتوبر 1973 بخذلان عبدالحليم حاد الذكاء، بقدرته على تلمس «معالم الطريق» الساداتي. ففي زهوة النصر رفض الطويل تلحين أغنية «عاش اللي قال» ولحن أغنية سيد حجاب «الباقي هو الشعب»، فرفضها عبدالحليم بقراءته لسيكولوجية السادات، وإن تذرّع بأن كاتبها شيوعي، وغنتها عفاف راضي وأذيعت مرتين ومنعت واستقرت في الأضابير في انتظار ثورة تعيدها إلى الحياة، فكانت 25 يناير حين آمنا بالثورة والأغنية التي يقول مطلعها: “الباقي هو الشعب والباني هو الشعب ولا فيه قوة ولا فيه صعب يصدوا زحف الشعب”. سراب/12