كنت في الرقة ينقب عن أصول الشر في الذهنية العربيةتورط الكثير من الشباب التونسي والعربي في مستنقع الإرهاب. وكان مثيرا للاستغراب أن يفضل شباب لا تجبرهم ظروفهم المادية والعلمية عالما دمويا وتستهويهم بيئة متطرفة؛ ويحاول الكاتب التونسي هادي يحمد في كتابه “كنت في الرقة: هارب من الدولة” أن يوضح هذا اللبس عبر نقل شهادة داعشي يفضح بها الخواء الفكري والعقائدي للتنظيم. ويدين من خلال قصة سردية النمط الثقافي والديني والاجتماعي الذي صنع ظاهرة داعش، والتي كشفت عن ثقافة راكدة وهجينة مازال يعاني منها العالم الإسلامي.العرب محمد بن امحمد العلوي [نُشر في 2017/04/21، العدد: 10609، ص(12)]مجتمعنا لا يتحدث بلغتنا لم يتفاجأ هادي يحمد الكاتب التونسي مؤلف كتاب “كنت في الرقة: هارب من الدولة الإسلامية” من نجاح عمله، ونفاد نسخه من الطبعة الأولى في أقل من خمسة أيام ضمن فعاليات معرض الكتاب في تونس خلال شهر مارس الماضي. وباح خلال حواره مع “العرب” عن دوافعه الذاتية والموضوعية في نقل تجربة شاب تونسي هو محمد الفاهم الشخصية المحورية للكتاب، الذي اختار أن يكون داعشيا باحثا عن وهم “دولة الخلافة” في الشام، كالكثير من الشباب التونسي الذي تورط في “حلم الخلافة” فبات أداة للفوضى وتحول إلى فرد من الـذئاب المنفردة التي ترهب العالم وتسفك دماء من لا ذنب لهم. ويضيف “عندما أنهيت عملي في تركيا وسجلت هذا اللقاء الذي كان محور كتاب «كنت في الرقة» كنت على يقين أمام شهادة صارخة ومادة قوية ستكون محل اهتمام”. تونس لم تعد رائدة الانفتاح يعد الكتاب خطوة جريئة تكشف اللبس والغموض عن هذه الظاهرة المعقدة ويسلط الضوء فيها على دوافع اختيار عدد كبير من الشباب الانضمام إلى التنظيمات المتطرفة من خلال شهادة محمد الفاهم. يقول الكاتب وهو باحث مختص في شؤون الجماعات الإرهابية “بعد إصداري لكتاب «تحت راية العقاب: سلفيون جهاديون تونسيون» تيقنت أن هناك رغبة تونسية وعربية بل عالمية من أجل فهم هذه الظاهرة الملتبسة”. ويضيف يحمد، الذي عرف بتحقيقاته الصحفية ذات الطابع الاجتماعي والسياسي، أنّ التنامي المطرد لظاهرة الجهاديين التونسيين، المنضوين تحت راية التنظيمات الإرهابية وخاصّة تنظيم الدولة الإسلامية في كلّ من العراق وسوريا وليبيا أضحى لا يمثل خطرا على الأمن القومي التونسي فقط وإنما على الأمن الإقليمي والعربي عموما.الكتاب يمس الضمير الجمعي ويجادله ويسائله، نحن لسنا أمام مجرد شهادة لمقاتل هرب من داعش، ولكننا أيضا أمام إدانة لكل النمط الثقافي والديني والاجتماعي الذي صنع داعش ويعتبر أن مقولة “تونس هي البلد العربي الأكثر انفتاحا”، أضحت تبدو مخاتلة نوعا ما، وهي بالفعل غير مقنعة في ظل تمدد التيار الجهادي في تونس وتنامي قوته واستقطابه لعديد العناصر، فعلى الرغم من أنّ تونس تحتضن بيئة أكثر انفتاحا وتعدّ الأقرب إلى أوروبا من حيث المنوال المجتمعي الذي تعيشه، إلاّ أنّ هذه البيئة، وفي مفارقة عجيبة، أنتجت الأشرس في التيارات الجهادية والأكثر عددا. وبالتالي فإنّ درس الظاهرة الجهادية التونسية والإحاطة بجميع تفاصيلها والإلمام بجل الأسباب الكامنة وراء انتعاشها وتفشيها، يعدّ أمرا ضروريا ومفيدا إلى أبعد الحدود لفهم التيار بشكل عام في المنطقة العربية، وبالتالي محاولة استنباط الحلول الناجعة لصدّ خطره المتنامي ومجابهته وكفه على الأمن الإقليمي عموما. يشير هادي يحمد إلى أن الكتاب يمس الضمير الجمعي ويجادله ويسائله “نحن لسنا أمام مجرد شهادة لمقاتل هرب من داعش، ولكننا أيضا وهذا ما أشرت إليه في مقدمة الكتاب أمام إدانة لكل النمط الثقافي والديني والاجتماعي الذي صنع داعش في شخصية محمد الفاهم”. ويسافر بنا عبر رواية حبكت أحداثها لغويا وزمنيا بطريقة الهرم المقلوب، لكننا أيضا أمام كتاب يخاطب القارئ ويحمله المسؤولية ويقول “نعم محمد الفاهم «جلاد» وإرهابي ولكني أبحث في الكتاب عن الجلادين الآخرين الذين «صنعوا» محمد الفاهم وما أكثرهم”. ويصنف هادي يحمد كتاب “كنتُ في الرقة: هارب من الدولة” في جنس “البورتريه- روايةـ شهادة” فهو يجمع الخانات السردية الثلاث ويمزج بينها ليروي رحلة شاب تونسي هاجر إلى تنظيم الدولة الإسلامية أو ما اصطلح عليه بداعش. صناعة داعش على لسان هذا الشاب يكشف الكاتب الأسباب التي دفعت به إلى الهجرة عام 2014 إلى سوريا عبر ليبيا وتركيا وصولا إلى مدينة تل أبيض السورية عندما كان يسيطر عليها تنظيم الدولة. واعتبر هادي يحمد أن طرح كتابه في ظل ظروف مضطربة تعيشها المنطقة العربية من أجل “إلقاء حجارة جديدة في هذه الثقافة الراكدة منذ قرون، وإصداره الآن هو وضع الإصبع على موطن الداء وبعض من «أصول الشر» في الذهنية العربية الإسلامية”. وبهذا المعنى فإن الكتاب وفق المؤلف هو “مكاشفة ومواجهة مع الذات في الدوافع السياسية والثقافية والعقائدية التي دفعت محمد الفاهم (26سنة) الشخصية المحورية في الرواية وهو اسمه الحقيقي، إلى الانضمام إلى تنظيم الدولة”، ويقول “من هنا تأتي أهمية الكتاب باعتباره سابقة مكتوبة في عالمنا العربي. وبالتالي فالكتاب شهادة ونظرة عن كثب لتنظيم داعش من الداخل من خلال شهادة أحد مقاتليه الذين انسلخوا عنه”. ويفسر الكاتب الأسلوب السردي الجدلي الذي اعتمده في نقل شهادة الشخصية المحورية وهي جوهر الكتاب ومضمونه قائلا “الكتاب يُحكَى من قبل ضمير المتكلم وفي أحيان كثيرة يتوه القارئ حول من يتحدث في النص عن طريق حضور ضمير المخاطب وكأننا بمحمد الفاهم يخاطب نفسه ويحاسبها. والأكيد أن الكتاب يصنف كذلك ضمن جنس الشهادات الميدانية التي تصلح لكل من يروم الحصول على معطيات دقيقة وتفصيلية لما جرى ويجري داخل تنظيم الدولة الإسلامية وهو بهذا بالمعنى مادة خام للباحثين في الإسلاميات والعلوم الاجتماعية والنفسية”.هادي يحمد: محمد الفاهم نتاج لجريمة إنتاج ذوات انفصامية، فالثقافة العربية تساهم في ظاهرة داعش لأنها تنتج مواطنين مشوهين ثقافيا تعرية أيديولوجية يفكك مؤلف كتاب “كنت في الرقة” تنظيم الدولة من الداخل ويكشف الخور الفكري الذي بني عليه التنظيم، كما يكشف آليات اشتغال “ماكينة الدم” الدولاوية (نسبة إلى الدولة). وينقل شهادة ميدانية للشخصية المحورية للكتاب محمد الفاهم التي تكشف تناحر تيارين داخل داعش، البنعلية (تركي البنعلي، شرعي الدولة الرسمي) والحازمية (نسبة للشيخ التكفيري المعتقل في سجون السعودية (محمد بن عمر الحازمي)، حيث وصل هذا الصراع إلى عمليات تصفية داخلية وقتل بعض الشرعيين الذين يناصرون الحازمي في قضية “عدم العذر بالجهل”. ويتحدث محمد الفاهم بطل الرواية الداعشي عن الاعتقالات في ما يسميه “دولة الملثمين” والتي تنتهي عادة بصلب وقتل الحازمية، وأعطى مثلا لقصة قتل أبوجعفر حسن الحطاب (أحد شرعيي داعش) لأنه تبنى مذهب الحازمية وكفر الدولة وكفر البغدادي. وفضح محمد الفاهم الإعدامات التي تقع في مطار كشيش في ريف حلب الشرقي للمنشقين عن داعش. وكشف كيف تلقي الدولة الإسلامية بالمهاجرين الجدد في الصفوف الأولى للمعارك وتضعهم في اختبار إما “النصر” وإما “الموت” دون أي مجال للانسحاب، وإلا فإنهم سيحاكمون بتهمة “التولي من الزحف”. وتحدث صاحب الشهادة عمّا يسميه “محركة معركة كوباني” التي قتل فيها أزيد من أربعة آلاف عنصر من داعش لأن البغدادي أصر على تسليمها إلى القوات الكردية وهي في حالة خراب كامل. ولا يعتقد الكاتب هادي يحمد أن رحلة صاحب الشهادة بطل الرواية للانضمام إلى تنظيم الدولة الإسلامية كانت لدوافع مادية. ويقول “ليس هناك في قصة محمد الفاهم ما يوحي برغبته في منفعة على الأقل على الجانب المادي لأنه شاب ينتمي إلى طبقة اجتماعية مترفهة في تونس، فقد ولد في ألمانيا وأعيد إلى تونس وعمره خمس سنوات. وقد خافت عليه أمه من مخدرات المَهاجر الأوروبية فضاع في مخدرات الأوطان العربية، إن محمد الفاهم كان يعيش في مدينة نابل (جنوب العاصمة تونس)، متمتعا بحظوة عالية ورفاهة مادية جيدة حيث يملك منزلا وسيارة”. يعري الكاتب قناعات الشخصية الداعشية قبل وبعد انخراطه في سلك الجهاديين وانسحابه من تنظيم الدولة “ففي مرحلة ما من عمر محمد الفاهم اقتنع أن حلمه أو اليوتوبيا التي يحلم بها هي هناك في الشام حيث ستجري وفق بعض الأحاديث معركة آخر الزمان أو معركة دابق في ريف حلب الشرقي، لذلك هاجر متحملا صعوبات السفر عبر الصحراء التونسية الليبية من أجل هذا الحلم”. وبعد عام في الشام وتجربة قتال إثر مشاركته في معركة تدمر الأولى، اكتشف أن دابق كانت مجرد سراب، فرحلة محمد الفاهم كانت “مبررة” بالنسبة إليه شرعيا ولم يكن يريد مالا ولا جاها في داعش. ولا يستثني الكاتب محمد الفاهم عن غيره من الشباب الملتحق بالتنظيم الإرهابي، حيث كان “كالكثير من الشباب المتدين المتأثر بمقولات الإسلام السياسي ودولة الخلافة كان يحلم بالدولة الإسلامية الجامعة، وكان مقتنعا بكل الأحاديث التي تدرّس في المنظومات التربوية العربية بأن الإسلام سيعود ليحكم العالم وأن الغلبة ستكون في نهاية العالم لأمة الإسلام”. ويشير إلى أن محمد الفاهم تربى داخل حاضنة ثقافية تقول له “إن المسلمين على حق وكل الآخرين يجب قتالهم وإخضاعهم لدين الحق، وفي اعتقادي أن قصة محمد الفاهم تتبع هذه الرحلة العقائدية التي يهاجر فيها الشباب من أجل هذه الأفكار السائدة في المنظومة التربوية والدينية”. ذوات هجينة يؤكد الكاتب أن “محمد الفاهم نتاج لما أسماه جريمة إنتاج ذوات هجينة وانفصامية، فالثقافة العربية تساهم في ظاهرة داعش لأنها تنتج مواطنين مشوهين ثقافيا. والأمر في اعتقادي مع قصة محمد نموذج لضياع جيل بأكمله وبإمكانية ضياع أجيال أخرى إذا لم نتفطن إليها ونحسم في الخيارات الثقافية والدينية والتربوية التي يجب اعتمادها في العالمين العربي والإسلامي”.مراجع الإسلام السياسي سبب البلاء الداعشي وعلى المستوى الذاتي لم يخف الكاتب بعد اقتحامه عالم محمد الفاهم الخطير والمعقد أنه التقى “محمد الفاهم الذكي بخلاف الأطروحات التي تريد أن تسوق لنا كليشيهات عن مرضى نفسانيين، فهو نتاج ثقافة انفصامية هجينة ولكنه في ذاته يحمل الكثير من مواطن القوة والثقة في النفس”. كما لم يخف لـ”العرب” عن تساؤله خلال جلسات الاستماع التي عقدها مع صاحب الشهادة “كيف لهذا الشاب الجالس أمامي أن يكون قد خاض القتال مع أحد أبرز التنظيمات الإرهابية في السنوات الأخيرة؟”. ووصف تجربة البوح مع الجهادي الذي تلطخت يداه بدماء بشرية، والذي يبحث من خلالها عن التخفيف من شحنات الغضب تجاه تنظيم خذل طموحاته وتوقعاته، مقابل حرص الكاتب والصحافي عن توثيق الشهادة وسردها من خلال “لقاء غريب، لقاء صحافي يؤمن بالعقلانية كمنهج وحيد لقيادة البشرية بإرهابي لا يكفرني فقط بل يكفر العالم برمته. وأعتقد أننا بهذا اللقاء كسرنا الصورة النمطية وبنيتُ بين عالمين مختلفين جسرا وقتيا من أجل أن أفهم ومن أجل أن يبوح هو بتجربته، هل كان محمد الفاهم بحاجة إلى أن يتكلم، وجئت أنا في اللحظة المناسبة مصادفة لألتقط وأوظف هذه اللحظة؟ أعتقد ذلك”. ولفت هادي يحمد إلى أن مشروع الكتاب كان “نتاج محادثة طويلة بيننا على المواقع الاجتماعية، محادثة أخذت مداها وبنت عامل الثقة المتبادلة. الفاهم أعطاني الأمان وأنا عاهدته أن أكون أمينا في نقل الوقائع التي جرت له، وكان نتاج كل هذا كتاب «كنت في الرقة» كمنجز مفارقا للحظة التاريخية”. وخلص في ختام حواره إلى أن رحلة البوح مع شخصية داعشية كانت “مغامرة بالمعنى المضموني والشكلي؛ فمن حيث المضمون إن رحلة البوح مغامرة تكشف لنا الخفي في نفسية الإرهابي وتحاول فهمها من الداخل وتحطم الصورة النمطية لداعش من الداخل. وأما من حيث أنها مغامرة شكلية فلأنها تعطي الإرهابي مجالا للتعبير عما يشعر به، وهنا تأتي عملية انتقاء المصطلحات والألفاظ من جهتي حتى لا أسقط تحت طائلة «تبييض الإرهاب» والدعاية المجانية له”.