يفترض أن لا تسمح الدول المدنية لأية سلطة من سلطاتها الثلاث بالانفراد في علاقتها مع الأفراد سواء كانوا مواطنين أو مقيمين، وذلك من أجل تقليل احتمالات التعسف ضدهم، وهذا المبدأ الحضاري من بين ركائز الدستور الكويتي. لذلك يجب علينا أن نرفض كل صور الانفراد، خاصة تلك المقنعة بالحقوق السيادية للدولة ولكن واقعها صلاحيات ديكتاتورية للحكومة، كالإبعاد الإداري للمقيمين الذي تقرره وتمارسه الحكومة، بل إدارة في وزارة، منفردة. وهذا لا يعني أن نرفض مبدأ الحقوق السيادية للدولة، بل المطلوب هو الحرص على أن تحدد السلطة التشريعية تفاصيل وحدود الصلاحيات السيادية التي ستمنح للسلطة التنفيذية، مع الالتزام بإلغاء تلك الصلاحيات الاستثنائية متى ما انتهت الحاجة لها.في الاسبوع الماضي، عقد مجلس الأمة جلسة تاريخية انتهت برفض التعديلات التي قدمت على قانون المحكمة الادارية والتي تلتقي جميعها في منح حق اللجوء إلى القضاء في قضايا سحب الجنسية. وبالرغم من قناعتي المبدئية بضرورة بسط ولاية القضاء على مسائل سحب الجنسية، إلا أنني أشكر كل من ساهم في رفض هذه المقترحات، لأنني لست مطمئناً إلى انقضاء الحاجة لاعتبار مسائل الجنسية من الحقوق السيادية للدولة، بالكيفية التي اقرها البرلمان، والمبينة في القانون الرقم 20 لسنة 1981 في شأن إنشاء دائرة في المحكمة الكلية لنظر المنازعات الادارية.الاشكاليات التي طرحها النواب المعارضون - للتعديلات المقترحة - خطيرة وتوجب التصدي بحزم للمقترحات، خاصة مع وجود إمكانية إعادة طرح المقترحات والموافقة عليها متى ما انتفت سلبياتها. بالطبع، المعارضون طرحوا العديد من الاسباب لموقفهم ولكن كان من بينها سببان رئيسان، أولهما هو الرأي القانوني الذي حذر من أن إقرار التعديلات سيحصن مزوري الجنسية بسبب التقادم، علما بأن هذا الرأي تم تأكيده في الجلسة من خلال الاستشهاد بأحكام قضائية نهائية. والسبب الثاني كان متعلقا في بيانات احصائية تشير إلى وجود زيادة غير طبيعية - تقارب 360 الف - في أعداد الكويتيين. أي أن اقرار التعديلات في تلك الجلسة كان مقترنا بتحصين جنسيات مزورة قد يصل عددها إلى 360 الف جنسية.هناك أيضا نقطة أخرى في غاية الحساسية، وتتطلب التوقف عندها ودراستها، وهي الحملة الإعلامية المضادة لمبررات رفض التعديلات والمعادية لمن طرحها من النواب. فالملاحظ أن من بين المشاركين فيها بعض الذين انخرطوا - بصورة علنية أو خفية - في أنشطة الربيع العربي بالكويت. لذلك أتساءل: هل يعتقد هؤلاء البعض أن حالتي سحب الجنسية هما السبب الرئيس لخمود ربيعهم؟ وهل هناك بينهم من يرى في أن تمكين القضاء من النظر في منازعات الجنسية سوف ينعش ربيعهم؟ لا أعلم، ولكنني متوجس من دوافع هؤلاء البعض المساهمين في الحملة المضادة، مع احترامي الكامل لغيرهم ممن يؤيد - بمنطلقات حقوقية - المقترحات التي رفضها المجلس.من جهة أخرى، أعلم يقينا أن أدوات هؤلاء البعض في هذه الحملة الاعلامية متسقة مع تلك التي استخدموها في اشعال فتنة الربيع العربي، ومن أبرزها ملفي سرقة المال العام وترسيخ الاصطفاف الفئوي. فمن بينهم من يحتمل أن المعلومات في شأن تزوير الجناسي ملفقة والقصد من ورائها إلهاء المواطنين عن السرقات المليارية. لا شك بأن هذه التهمة يمكن اسقاطها في كل زمان ومكان وعلى أية قضية تسترعي اهتمام المواطنين. وأما تجديد مساعيهم لتمزيق المجتمع بين حضر وبدو وبين سنة وشيعة، فتجد فيهم من يشير إلى أن دوافع معارضي التعديلات فئوية، بالرغم من تأكيدات المعارضين المتكررة - في الجلسة نفسها - بأن مواقفهم ليست موجهة ضد أية شريحة مجتمعية، بل هي من أجل حماية حقوق جميع أطياف المجتمع.وبعد اسقاط المقترحات، وفي خطوة إيجابية، تقدم عشرة نواب بطلب تكليف لجنة الداخلية والدفاع بالتحقيق في أعداد المزورين للجنسية الكويتية خلال السنوات الخمس الأخيرة. وأنا بدوري أناشد أعضاء المجلس - وبالأخص من رفض التعديلات - الموافقة على هذا الطلب ولكن بعد إلغاء تحديد السنوات المراد التحقيق خلالها، لأننا أكثر اهتماما بأعداد المزورين الذين كانت ستحصنهم التعديلات، وهم من زور قبل عام 2007.وأما الحكومة، فرسالتي إليها أن التدقيق في ملفات الجنسية لكشف حالات التزوير من الأهمية بدرجة تضاهي - إن لم تكن تزيد على - أهمية المسح الجيولوجي لاكتشاف المكامن البترولية، لأن الأول مرتبط بأمن الدولة. لذلك عليها تطوير اجراءاتها المتبعة في صرف شهادات الجنسية وتحسين معاييرها وآلياتها لضمان سلامة إجراءاتها. وعليها أن توظف العلوم الحديثة من قبيل الذكاء الاصطناعي في رقابة عمليات صرف شهادات الجنسية الكويتية... «اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه».abdnakhi@yahoo.com