بدأت مقاربة ترامب للأمن القومي تنحو الى المقاربة التقليدية. وتبددت ميول أميركا أولاً الانعزالية الجديدة. والضربة الصاروخية في سورية- الاقتصاص من النظام السوري على شنه هجوماً كيماوياً- هي خطوة في متن السياسة الأميركية ونالت مديح الثنائية الحزبية الجمهورية والديموقراطية. ولا شك في ان المؤشرات الملتبسة كثيرة. ولكن موسم الود مع روسيا يطوى. ولم تندلع حرب تجارية مع الصين، والاتفاق النووي مع ايران لم يجهض، ولم تنقل سفارة اميركا في اسرائيل الى القدس، في وقت تقترب حاملة طائرات اميركية من كوريا الشمالية لتحذيرها من ألعاب النظام النووية، وهذه كلها مؤشرات الى التزام دور عالمي شامل. ولكن ماذا وراء الابتعاد عن خطابات الحملة الرئاسية؟ يعود شطر من التغير، من غير شك، الى نزول ترامب على ما يقتضيه منصبه. ولكن التغير يحمل، كذلك، بصمات خمسة لاعبين كبار دورهم بارز في خط مقاربة الإدارة الأميركية: وزير الخارجية ريكس تيلرسون، وزير الدفاع جيم ماتيس، ومستشار الأمن القومي أتش أر ماكماستر، ووزير التجارة ويلبر روس، وصهر الرئيس ومستشاره جاريد كوشنر. وهؤلاء سعوا الى ارساء اسس استقرار استراتيجية الإدارة الأميركية، ووجهوها الى وجهة اكثر تقليدية. وفي الأثناء، غادر أول مستشار امن قومي للإدارة هذه، مايكل فلين، منصبه، وأبرز إستراتيجييها ستيف بانون لم يعد في لجنة مجلس الأمن القومي المركزية، وانحسر دور مستشار التجارة بيتر نافارو. وهؤلاء اصحاب رؤى متباينة وغير تقليدية وخارجة على الأعراف وعلى إجماع الـ «إستابليشمنت» (المناصب أو الهيئات السياسية). وفي هذه الإدارة دور تيلرسون وماتيس بارز، على رغم ان قماشة كل منهما من لون مختلف: فماتيس هو جنرال في البحرية الأميركية متقاعد شارك، طوال سنوات، في نقاشات الأمن القومي والقرارات، في وقت ان تيلرسون كان مدير «إيكسون موبيل» التنفيذي، ورؤاه الى العالم نسجها وهو يرتدي بزة مع ربطة عنق، وليس في البنتاغون ولا في ميدان المعارك في العراق. ولكن اليوم تجمعهما مقاربة مشتركة لنقاشات الإدارة في مسائل الأمن القومي البارزة. وتضافرت مساعيهما إلى نزع العراق من لائحة حظر دخول مسافرين من دول غالبيتها من المسلمين. وعلى رغم ان موقف كلاهما من ايران متشدد، أجمعا على ان التخلي عن الاتفاق النووي مع طهران يفتقر الى الحكمة. وسعيا معاً في إعلاء شأن تحالفات الإدارة الأميركية التقليدية، ومع الناتو تحديداً، على رغم ذم ترامب في حملته الانتخابية الحلفاء. وما يستوقف هو توجيههما الإدارة نحو نبرة متشددة ازاء روسيا. وأكثر من نحا الى هذا المنحى هو تيلرسون على رغم انه رجل ربطته صداقة بالرئيس الروسي في ايام مهنته في عالم الأعمال. وإثر الضربة الأميركية في سورية، كان خطاب تيلرسون حازماً ومتشدداً. وماكماستر يحدد معالم مجلس الأمن القومي وفريقه على ما يشتهي. فغادر بانون المجلس هذا، ونائب مستشار الأمن القومي، كي. تي ماكفارلاند، ترك منصبه الى منصب السفير الأميركي في سنغافورة. ونأى روس بخطاب التجارة عن التهديد بخطوات أحادية متسرعة، وأعاده الى قنواته التقليدية في الرد على الانتهاكات الصينية التجارية. ونجم عن لقاء الأسبوع المنصرم مع الصين، اتفاقات في مسائل شائكة، ولم ينتهِ اللقاء الى قطع العلاقات بين واشنطن وبكين، على رغم أن الإدارة الأميركية لم تبلور بَعد نهجاً تجارياً. ونزع روس فتيل التوتر التجاري مع المكسيك؛ واتفاق التجارة الحرة في شمال أميركا هو قيد المراجعة والدرس، ولكن المراجعة هذه غير جذرية. ويبدو ان دور كوشنر اكثر غموضاً، ولكنه ابرم تحالفات مع ابرز اللاعبين. وهؤلاء تقربوا منه لدالته على حماه. وبعض مؤيدي ترامب لا ينظرون بعين الإعجاب الى الانعطافة نحو السياسة التقليدية والمتعارف عليها، بينما بدأ الـ«ايستابليشمنت»، وهو غير منتخب، يتنفس الصعداء. * صحافي، عن «وول ستريت جورنل» الأميركية، 10/4/2017، إعداد منال نحاس