هل جربت شعور أن تصبح ضحية لنكتة؟ في مصر التي يقال عن شعبها أنه "ابن نكتة" هناك مناطق كاملة، وثقافات كاملة، وأحيانا ديانات كاملة أو جنس بشري كامل يعيش عمره ضحية للنكتة أو بطلا من أبطالها.. يضحك لها مرة وتوجعه وتهينه أخرى. كيف بدأت الحالة؟ وما حقيقة الصورة النمطية التي ترسمها النكتة عن هؤلاء؟ وكيف "يقاومون" أو يتعايشون مع السخرية التي تلاحقهم في كل مكان تطؤه أقدامهم في مصر، وأحيانا خارجها. "مرة واحد صعيدي.." كانت شيماء تتردد كثيراً قبل تقديم نفسها لأشخاص جدد؛ لكونها "صعيدية"، فقد وُلدت وعاشت معظم عمرها في محافظة سوهاج، إحدى محافظات جنوب مصر، المعروف بالصعيد. لعقود طويلة، كان أهل الصعيد موضوعاً للنكتة في مصر، وشيماء لا تعرف السبب وراء احتفاظ "الصعايدة" بموقع البطولة في معظم النكات المصرية. فقد كانت النكات التي تُطلق على الصعايدة، بالإضافة إلى أهل بعض المناطق مثل محافظتي دمياط والمنوفية، أكثر من 69٪ من النكات المتداولة في مصر بداية الألفية الجديدة. مرة واحد صعيدى سافر مصر اتسرقت محفظته، بلغ عنها، فقال له الظابط: حاضر حجيبهالك من تحت الأرض. طلع الصعيدى بره لقى الناس بتحفر لخط المترو، فقال لهم: "الهمة يارجالة هى سودة وفيها سوستة" تشير معظم النكات التي تتناول أهل الصعيد، في الغالب، إلى الطيبة المبالغ فيها والتي تصل إلى حد السذاجة، أو البداوة في بعض الأحيان، وهو ما يعزوه بعض المتابعين إلى مراحل متقدمة من سكنى القادمين من الجزيرة العربية في جنوب مصر، وانفصالهم بشكل ما عن المصريين المقيمين بالقاهرة وشمالها، أو حتى أسلوب تعاملهم الحاد مع أهل مصر من الأقباط، وهو ما أدى إلى نشأة النكتة ضدهم كرفض سياسي في المقام الأول. لكن رأياً مناقضاً تماماً يحمله مصطفى رجب، أستاذ الاجتماع بجامعة سوهاج، الذي يعتقد أن المستعمر الفرنسي والإنكليزي كان السبب، فأكثر معاناة الاحتلال كانت من بطولات المقاومين الشجعان ضد معسكراتهم بالليل، فصارت قيمة الشجاعة موضوعاً للنكتة، وكان أهل الصعيد أكثر من يتسمون بها، ومن هنا بدأت السخرية منهم لغرض سياسي أيضاً. لكن رجب يعود ويؤكد أنه على الرغم من أن السخرية من أبناء مناطق بعينها أمرٌ مشترك في العديد من الدول والثقافات، فإن الوصف في النكتة المصرية يتميز بالمبالغة أكثر من غيره. صعيدي سقط من فوق السلم فانكسر ظهره، فأعطاه الطبيب مرهماً وقال له: ادهن مكان الإصابة. فذهب الصعيدي ودهن السلم. محمد عمر، شاب صعيدي جاء من محافظة أسيوط، لا يعتقد أن موضوع النكت منفصل تماماً عن القيم التي يحملها الكثيرون من أهل الصعيد تاريخياً. "قد يأخذ الصعيدي الكلام على ظاهره، كما أنه ليس مرناً بشكل كافٍ، وعنيف، ويتضح ذلك خصوصاً كلما ابتعدت عن القاهرة إلى الجنوب، وما زال الناس يقتل بعضهم بعضاً بسبب مواقف صغيرة؛ كدخول حمار أحدهم إلى أرض الجار! وما زالوا يحرصون على الأخذ بثأر قتلاهم". الصعيدي في السينما كثيرة هي الأفلام التي تقدم بطلاً صعيدياً؛ منها على سبيل المثال: فيلم "العتبة الخضراء" الذي قدم الفنان إسماعيل ياسين في دور رجل صعيدي باع أرضه وجاء إلى القاهرة للتجارة في الفواكه، حتى قابل يوسف الجميل، الذي كان يمثل دوره الفنان أحمد مظهر. استغل الأخير طيبة قلب الأول مقنعاً إياه بشراء ميدان العتبة وسط البلد، بالإضافة إلى شراء التروماي! بعد ذلك بعقود، قام الممثل هاني رمزي بأداء دور البطولة في فيلم "". يتناول الفيلم قصة "فضل" الذي يعمل مدرساً بالقاهرة. في الفيلم، يظهر بوضوحٍ، السخرية من ذكاء الصعايدة عندما يخبره ابن بلدته "رزق" بأنه أتى لزيارة ربيع في المستشفى بعد أن أُصيب بجلطة في المخ، ليتساءل "فضل" بجدية: "جاله منين المخ ده؟!". يعود "فضل" إلى بلدته بعد وفاة والده ليتولى منصب العمدة خلفاً له، ويظهر فجأة "عم عوض"، وسط اندهاشه يتساءل "فضل": "هو مش هفُّه (دهسه) القطر السنة اللي فاتت"، فيرد أحدهم: "لا ده داس على دماغه بس". لكن الصعيدي ذكي على نقاء سريرته، ويستخدم ذكاءه و"جدعنته" لإنقاذ أصدقائه، ولتأكيد موقفه المؤيد للقضايا الكبرى، مثل فيلم الفنان محمد هنيدي، "صعيدي في الجامعة الأميركية"، الذي كان إشارة بدء موجة الكوميديا الجديدة في مصر. المنوفية.. ساسة يجلبون السخرية لأهلهم مثلها مثل شيماء، لم تكن هدير التي تعيش في القاهرة تعلن أنها من أبناء محافظة المنوفية؛ تجنباً للنكات المعتادة عن بُخل أبناء هذه المحافظة الواقعة في دلتا مصر. وفي يوم خطبتها، لم تصدق والدة العريس أن هدير منوفية، وقالت: "لا مش باين عليهم خالص.. دول كرما وكويسين". واحد منوفى سأل أبوه: يابا إيه معنى الشدة والفرج؟ قال له: الشدة انه يزورنا ضيف وقت الغدا، والفرج انه يطلع صايم تنفى هدير ما يوصف به أبناء محافظتها من البخل، ولكنها تقر بكونهم حريصين على التفوق والاحتفاظ بالمميزات، بالإضافة إلى أن المناصب المهمة في الدولة، يرتكز جزء كبير منها في أبناء المنوفية. واحد بيسأل واحد صاحبه: ياعم الإسرائيليين لما كانوا بيحاربوا مصر ضربوا كل المحافظات ما عدا المنوفية! قال له: أكيد يعني اليهود مش بيضربوا بعض لكن النكات التي تتناول المنوفية تأتي بالأساس للتعبير عن المعارضة السياسية، خاصة منذ عهد الرئيس الأسبق أنور السادات، والذي كان عادة ما يقضي جزءاً كبيراً من وقته في مسقط رأسه بمحافظة المنوفية، وربما تكون النكتة السابقة إحداها، لا سيما بعد قرار السادات إبرام معاهدة سلام مع إسرائيل. "النكتة سلاح الضعفاء، هناك نكت عبر التاريخ المستمر تؤكد استخدامها للتصدي للظلم، وتاريخ المصريين مع استخدامها في السياسة قصة طويلة، أُلفت فيها الكتب؛ منها كتاب للصحفي عادل حمودة"، يقول الدكتور أحمد عبدالله، مشيراً إلى كتاب "النكتة السياسية" للكاتب الصحفي عادل حمودة، والذي تناول فيه شكل النكتة في مصر وأثرها السياسي.ليسوا أبناء الأقاليم فقط لكن المصريين لم يستخدموا النكتة ضد أقاليم بعينها فحسب، إذ كانت النكتة حاضرة دوماً كسلاح في وجه المختلف، وبشكل عام يشير علماء الاجتماع إلى أن النكات العنصرية أو "الاستعلائية" لا تتعلق بجهل ملقي النكتة بمن يسخر منهم، لكنها على العكس من ذلك، تعني أن ملقي النكتة وجمهوره يعرفون تماماً (أو يعتقدون أنهم يعرفون بشكل كامل) تلك المجتمعات الهامشية (مكانياً، اقتصادياً، ثقافيًّا، لغوياً، أو دينياً) موضوع النكتة. وفي مجتمع مثل المجتمع المصري، يتعرض أبناؤه لقمع شديد من السلطة الحاكمة، لا يجد المصريون إلا توجيه ذلك القمع إلى مصارف فيما يمكن إطلاق لفظ "متوالية القمع" عليه. وفي هذا يتحدث علماء الاجتماع عن أن النكتة تتعلق بما يتخيله ملقي النكتة عن نفسه وعن مجتمعه وموقعه في العالم، أكثر من تعلقها بتخيله للمجتمع موضوع النكتة، وما تفعله النكتة هنا هي أن تؤكد مركزية مجتمع ملقي النكتة لا هامشية الموضوع. وربما كان هذا تحديداً هو السبب وراء "تنكيت" المصريين على مجتمعين أكثر من غيرهما. المرأة والأقباط.المسيحي.. الضحية تقاوم بالنكتة مرة واحد مسيحي تعبان وبيموت، فأهله طلبوا القسيس عشان يكون جنبه، فالقسيس قعد جنبه وبدأ يقول له.. قول لا إله إلا الله.. قول لا إله إلا الله.. فالشاب قال لا إله إلا الله ومات.. فالقس ضحك بشدة وصاح بفرح: واحد مسلم مات.. واحد مسلم مات!. النفس الطائفي يبدو واضحا في النكتة السابقة لكنها مع ذلك متداولة على ألسنة كثير من المسلمين المصريين وأحيانا بعض المسيحيين، وهي تعكس في آخر الأمر شعورا بعدم الراحة تجاه الآخر! لكن إذا كنا نتحدث عن رد الفعل، فإن أوضح ردود الأفعال من ضحايا النكتة هي التي تظهر في نكات الأقباط، والتي تُستخدم بشكل مضاد للتعبير عن رؤية المسيحيين المصريين للعالم، وللرد على النكات التي تشيع بين المسلمين. كان الرئيس المصري في زيارة لإحدى الدول وكان معه بابا الأقباط وشيخ الأزهر فحضر كابتن الطائرة مسرعاً وأخبره بأن الطائرة مهددة بالسقوط نظراً لزيادة عدد الأفراد، ويجب أن نرمي بشخص واحد. فما كان من الرئيس العادل لحل المشكلة إلا أن قام بالحديث مع البابا وشيخ الأزهر قائلاً أنا ما عنديش محاباة كل أفراد الوطن سواسية ولحل المشكلة لابد من التضحية بشخص منكم و كل فرد له سؤال واحد فقط واللي مش حيجاوب سوف يُطرح خارج الطائرة: أولاً سؤال إلى شيخ الأزهر كم عدد سكان مصر؟ أجاب: 92 مليون يا رايس الرئيس: الإجابة صحيحة ثانياً سؤال للبابا ما هي أسماء وعناوين وأرقام بطاقات الـ92 مليون؟ هناك شعور سائد بالظلم والاضطهاد إذن لدى الأقباط المصريين، يعبر عن نفسه في شكل نكات في بعض الأحيان، ولكنه شعور لا يحظى باعتراف لدى قطاعات من المسلمين الذين يرون أن ظلم الدولة يستهدفهم أكثر مما يستهدف المسيحيين، وهو موجه بصورة أكبر للأكثرتديناً منهم. من ناحية أخرى يمكن ملاحظة بعض النكات التي يرد بها الأقباط على الخطاب المجتمعي الذي يُرى كمعادٍ للدين المسيحي، فالعديد من النكات المتداولة بين الأقباط يُفهم منها التأكيد على صواب الديانة المسيحية في مقابل الإسلام، خاصة في مقابل الكم الهائل من النكات التي تقال جهاراً عن المعتقدات المسيحية. ذهب أحد القساوسة في سفر لجهة ما وفجأة تعطلت به السيارة وكانت الساعة 3:30 فجراً، ولابد من شخص ما ليساعده وبحث فلم يجد، وبعد مدة من البحث وجد زاوية صغيرة بها أحد الشيوخ وإذ به يطرق على الباب ففتح له الشيخ فاعتذر القس نظراً لتأخر الوقت وطلب منه المساعدة فقال له أنت قس ولم تجد سواي حتى أساعدك لكنه في النهاية ذهب معه للمساعدة تحت إلحاحه الشديد وقال اركب السيارة يا أبونا وأخذ يدفع السيارة ويقول يا عذراء يا مار جرجس وأخذ يكررها ثم قال دور يا أبونا فدور وفجأة دارت السيارة مرة أخرى، وهنا اندهش القس من الشيخ قائلاً له أنت شيخ وعمال تقول يا عذراء يا مار جرجس إزاي؟ فنظر إليه الشيخ باستهجان قائلاً الساعة الآن الرابعة صباحاً تفتكر إنني سوف أقلق السيدة عيشة والسيدة زينب الآن؟!. نصف المجتمع موضوعاً لنكتة النصف الآخر ربما لا ينافس "الصعايدة" أحدٌ على عرش ضحية النكتة في مصر إلا المرأة المصرية. واحد نشر في إعلانات مبوبة :مطلوب زوجة!!! تاني يوم جاله 100 جواب فيهم نفس الرد: تاخد بتاعتي؟؟ من بين النساء المصريات، حازت الزوجات نصيب الأسد من النكات، إذ لا تتوقف النكات عن المقارنة بين المرأة المصرية كزوجة، وبين غيرها من الجنسيات، اللبنانية والسورية على وجه التحديد، حيث تبرز النكات المرأة اللبنانية رقيقة دوماً، والسورية مطيعة وجميلة، في حين تأتي المصرية عنيفة وقوية الشخصية. واحدة بتقول لجوزها بعد ما نجح في الانتخابات هاتلي هدية غسالة بقى عشان إنت مش حتبقى فاضي. الخبير النفسي محمد المهدي لديه نظرة مغايرة تماماً لأسباب حضور المرأة المصرية في النكتة كشخصية قوية. إن الاستقلال الاقتصادي لبعض النساء، بالإضافة إلى اضطلاعهن بمسؤوليات المنزل كاملة، يكسب المرأة بعد فترة صفات القوة والحزم والصرامة لكي تستطيع الحفاظ على تماسك الأسرة وتسيطر على نزاعات الأبناء ومشكلاتهم. كذلك، يشير المهدي إلى أن المرأة أكثر رباطة جأش من الرجل في مواجهة المشكلات الكبرى، في حين أنه أكثر إحساساً ومعاناة تجاه الاستبداد السياسي والقهر السلطوي وهو أكثر مواجهة للأزمات الاقتصادية والاجتماعية وأقل تحملاً لها من المرأة. ونتيجة لذلك، يمكن فهم تراجع دور الرجل أو إحساسه بالضعف أمام المرأة المصرية، ومن هنا جاءت النكات تعبيراً عن رؤية الزوج المصري للعلاقة ولدور المرأة. مرة واحد مراته ماتت فماشي في العزا عمال يضحك فواحد بيسأله بتضحك على إيه قاله أول مرة أعرف هي رايحة فين. اضحك على نفسك! تستقبل هدير هذا النوع من المزاح برحابة، فلا تراه سوى مجموعة من الصور النمطية التي يكون بعضها صحيحاً والبعض الآخر منها خاطئ، وما تبرح تلك الصور أن تتهاوى بعد مزيد من تعاملها مع الأشخاص الجدد. وكذلك، ترى شيماء أنه طالما بقي الأمر في إطار المزاح، فلا مشكلة "هو ينكت علينا واحنا ننكت عليه وننسى الموضوع". النكات لا تضايقها، لكن السياق الذي تقال فيه، والأسلوب المتعالي هو ما يسبب بعض الحساسية. في بعض مناطق الصعيد يطلق الصعايدة النكات على أنفسهم، بشكل اعتيادي، النكات نفسها التي يطلقها عليهم الآخرون، حسب عمر. وتروي شيماء عن صديقتها المنوفية التي تنكّت على المنايفة بمنطق "كُلْ نفسك قبل ما حد ياكلك" نفس تعبير الممثل أحمد حلمي في فيلم "جعلتني مجرماً".في هذا الإطار يتذكر عمر النكتة التي تقول: شخص يقف داخل الكعبة ويعلن التوبة من إطلاق النكات على "الصعايدة"، لكن أحدهم يأتيه قائلاً: هي القِبلة منين لو سمحت: فرد الأول: شايف يا رب هو اللي بيستفزني عمر ليس الوحيد، في الحقيقة، فإن أشهر من قال النكات على "الصعايدة" كان الصعيدي المونولوجست الراحل حمادة سلطان. فعلى الرغم من أن محمد سلطان (الشهير بحمادة سلطان) كان قد وُلد في القاهرة إلا أن جذوره تعود إلى محافظة أسوان بصعيد مصر، وكان الصعيدي، أو "بلدياتنا" كما أطلق عليه سلطان، هو البطل الحاضر دومًا في النكتة. لكن كالمعتاد، إذا زاد الأمر عن حده، ينقلب إلى ضده، كما في المثل المشهور. "إلى حد ما، مواضيع السخرية صحيحة، لكن قد يتحول الأمر إلى وصم للأقليات، وهو ما أراه مؤذياً أكثر من النكت"، تقول شيماء. ويؤكد الدكتور أحمد عبد الله أن هناك نوعاً من أنواع الاستعلاء من قِبل ملقي النكت، بحيث يبحث عما يميزه ويبدأ في تضخيمه، وينطوي تحت ذلك الأمر كلام كثير حول الطائفية أو العرقية أو التحيز والمفاهيم المسبقة. أي كلام مبدوء بكل فهو كلام فارغ. إذا تحولت السخرية إلى شيء جاد وتمييز، فهذا مزعج. يقول أحمد عبد الله: "في الأحوال العادية، قد يسخر الناس من أنفسهم، لكن أحياناً يتجاوز الأمر حده، فيصل بهم لإنكار هُويتهم؛ تجنباً للسخرية". حسب عبد الله، عندما تكون عربياً أو مصرياً مثلاً ستكون مضطهداً، حتى إن المصريين المسافرين على متن قوارب الهجرة غير الشرعية تكون الوصية الأولى من البعض، تقطيع جوازات سفرهم والحديث بأي لهجة أخرى؛ حتى لا يتعرضوا لهذا الاضطهاد. وكذلك من المنتشر أن العرب والمسلمين عندما يحدثون الأجانب عبر الإنترنت، ينتهي بهم الأمر إلى حظر حساباتهم بواسطة هذا الأجنبي عندما يكشف هويتهم، لكن الأكثر لفتاً للنظر -كما يقول عبدالله- هو أن المصريين والعرب يحظر بعضهم حسابات بعض؛ تجنباً للحديث، وتقليداً للأجانب وتبرؤاً من العرب. السخرية تنعكس على رؤية الشخص نفسه في بعض الحالات، كما يرى الدكتور مصطفى رجب، مؤكداً أن جمال عبد الناصر أنشأ إدارة، مهمتها جمع النكات التي تقال عنه، وكان يستشهد بها في الخطب، ومن ثم أصبحت وسيلة لتوجيه المسار السياسي. السخرية سلاح قوي في جميع العصور ضد الحكومة، لكن وحدها الحكومات التي لديها إحساس هي التي تغير سلوكها استجابة لهذه الإشارات الشعبية. كيف تتم صناعة النكتة! إطلاق النكت، في رأي السيناريست مصطفي عبدالفتاح، يأتي بشكل عفوي بناء على موقف أو كلام ما، وبعد ذلك يأتي دور الصنعة بحيث نتابع الأحداث ويتم استخراج الجانب الكوميدي منها. النكتة يغلب عليها الصنعة؛ لأنه ليس كل ما يضحك نكتة. النكتة تقال بأداء معين، ولها طريقة خاصة بها. "رأيت في إحدى المرات رجلاُ يعمل ملمعاً للأحذية في شوارع الإسكندرية، يردد في زهو: (أنا عبدالسميع اللمّيع). كان يتباهى بأن سمير غانم ذكر اسمه في مسرحية أستاذ مزيكا"، يقول عبدالرحمن بكر، رسام كاريكاتير ومؤلف كتاب "مجلة الفكاهة وجريدة البلاهة". حسب بكر، كان بعض الفنانين الكبار يجلس مع البعض على المقاهي، يسخرون ويطلقون النكات، وفي نهاية الجلسة يشتري منهم النكات التي أطلقت في أثناء الجلسة، هذه هي الطريقة التي يُضَمِّن بها المؤلفون والفنانون نكاتهم في أفلامهم. ليست السينما وحدها مجال صناعة النكتة، فالسياسة أيضاً كانت سبباً آخر لإطلاقها. فكان محمد التابعي وعلي أمين يجتمعان لتأليف نكتة "أخبار اليوم"، بعدها تم تكليف أحمد رجب ومصطفى حسين الأمر. يقول بكر: "كان الحكام يطلقون النكات على أنفسهم؛ تفريغاً لكبت الشعب. حتى إن رسامي الكاريكاتير كان هناك من يؤلف لهم. معظم رسامي الكاريكاتير لم يكونوا مصريين في البداية، فنان الكاريكاتير صاروخان، على سبيل المثال، كان محمد التابعي يكتب له النكات ويقوم هو برسمها، ولما كانت الشرطة تقبض عليه بسبب رسومه يجدون أنه أجنبي، ويؤكد لهم أنه يرسم ما يُكتب له ولا علاقة له الأمر. حتى إن الفنان محمد عبد المنعم رخا، والفنان زهدي، والآخرين الذين عملوا مع جريدة (الأخبار)، كان هناك من يؤلف لهم النكتة". مؤخرًا، صار هناك مجال مختلف لصناعة النكتة، عبر مجموعات عمل، تختص بالبحث في الأحداث وفي تصريحات الساسة والإعلاميين وغيرهم، من أجل الخروج بنكتة، أو "إفيه"، أو اسكتش. برع في هذا الشكل من السخرية، والذي كان له أثر واسع في المجالين السياسي والمجتمعي. واستمر هذا الشكل مع برامج ، ، وبرنامج . من الفراعنة إلى اليوم .. النكتة نزهة المقهور يصعب على الباحثين معرفة تاريخ نشأة السخرية بالتحديد، ولهذا فهم يعتقدون أنها موجودة منذ الأزل. الأهرام المصرية شاهدة على ذلك، بالإضافة إلى جدران المعابد، عبر رسوم يمكن اعتبارها كاريكاتيرية مرسومة عليها. كما تشير فصلية "الأدب العربي" في مقالة للكاتب شمسي واقف زاده، إلى بردية مصرية تُظهر طائراً يصعد شجرة بواسطة سلم خشبي وليس بواسطة جناحيه. وتُظهر رسومات أخرى فأراً سميناً يرتدي ثوباً غالياً، ويقوم على خدمته قط هزيل، حيث يقدم له الشراب الذي يتناوله الأول بـ"شفاطة"؛ حتى لا يرهق نفسه ويحمل الكأس. في العصر الإسلامي، كان الشعر لوناً أساسياً من ألوان الأدب، وكانت السخرية أحد ألوان الشعر الشهيرة. ومن ثم تغيرت الصورة التي كانت عليها السخرية. تشتهر عن المتنبي قصيدة مبدوءة بالبيت الشهير: " التي قالها هجاءً وسخرية من كافور الإخشيدي حاكم مصر في ذلك الوقت، بعد أن بخل عليه، يقول المتنبي: أَكُلَّما اِغتالَ عَبدُ السوءِ سَيِّدَهُ أَو خانَهُ فَلَهُ في مِصرَ تَمهيدُ صارَ الخَصِيُّ إِمامَ الآبِقينَ بِها فَالحُرُّ مُستَعبَدٌ وَالعَبدُ مَعبودُ نامَت نَواطيرُ مِصرٍ عَن ثَعالِبِها فَقَد بَشِمنَ وَما تَفنى العَناقيدُ العَبدُ لَيسَ لِحُرٍّ صالِحٍ بِأَخٍ لَو أَنَّهُ في ثِيابِ الحُرِّ مَولودُ لا تَشتَرِ العَبدَ إِلّا وَالعَصا مَعَهُ إِنَّ العَبيدَ لَأَنجاسٌ مَناكيدُ وكذلك العصر المملوكي الذي كان ممتلئاً بالشعر الساخر الذي يستهدف موضوعات عديدة. فكانت تتم السخرية من الخدم ومن النساء والحرفيين. وسخر البوصيري من زوجته قائلاً: جَعَلت بإفلاسي وشيبي حجة ** إذ صرت لا خلفي ولا قدامي ويقول أحد الجزارين الذي كان يعيش في العصر المملوكي، هذه الأبيات ذماً في مهنته: أصبحتُ لحاماً وفي البيت لا أعرفُ ما رائحة اللحم وليس حظي منه الا اسمه قنعت من ذلك بالاسم واعتضت من فقري ومن فاقتي عن التذاذ الطعم بالشم الشعر الشعبي كان منتشراً ذلك الوقت، وكانت من سماته الأساسية السخرية من السلاطين المماليك، وقد ألّف الكاتب محمد رجب النجار كتاباً بعنوان "الشعر الشعبي الساخر في عصر المماليك"، يروي فيه كثيراً من النماذج؛ منها أن عموم الناس كانوا يسخرون من "قوصون" نائب السلطان الذي استأثر بأمور الحكم، فرددوا هذين البيتين: من الكرك جانا الناصر وجاب معه أسد الغابة ودولتك يا أمير قوصون ما كانت إلا كدابة ولما ضجر الناس من مماليك الناصري، قالوا ترحماً على أيام السلطان برقوق: راح برقوق وغزلانه.. وجا الناصري وتيرانه وبعد جلاء الحملة الفرنسية، حاول البرديسي فرض ضرائب جديدة على التجار والحرفيين، فثار الناس ورددوا: "إيش تاخد من تفليسي يا برديسي". ونقل الجبرتي أن أبناء المصريين كانوا يغنّون في كراهية الحكام العثمانيين: "يا رب يا متجلي اهلك العثمالّي" وأنهم كانوا يسخرون منهم بشكل دائم. لم تكن النكات الشعبية تطلق على الصعايدة في بداية القرن العشرين كما يروي عبدالرحمن بكر؛ بل على البرابرة والنوبيين، وهذا واضح فيما نشرته مجلة "المصور" مع بداية العشرينات من القرن الماضي. كما أنه لا توجد نكت عن الصعايدة في أفلام الأربعينات والخمسينات، بالعكس كانو الفنانون يخافون من عصبيتهم. فمن نوادر الصحافة، أن جريدة "أبو شادوف" سخرت من عمدة صعيدي، فُقتل أبو شادوف رئيس التحرير على أثر الموقف. لكن مع بداية انتقال الصعايدة إلى القاهرة وباقي المحافظات في الستينات بحثاً عن عمل، رأي الناس عاداتهم وتقاليدهم الخاصة، فعادت عادة إطلاق النكات عليهم. تغيير الخريطة جعل الصعايدة مضطرين إلى تحمل السخرية مقابل أنهم يجدون سبيلاً للعيش بشكل أفضل. "النكتة سلاح شعبي قديم"، يؤكد مصطفى رجب أن الجماهير قاومت الظلم بالنكتة، فكانوا يغنون أيام الخديوي إسماعيل والخديوي توفيق "باشا يا باشا يا وش القملة.. مين قالك تعمل دي العملة". كما أن أول مجلة ساخرة على مستوى العالم العربي هي "أبو نضارة"، كتبها يهودي مصري يُدعى يعقوب صنوع، وكانت تسخر من الخديوي إسماعيل طوال فترة حكمه، وباقي الحكام من بعده. ثم جاءت مجلة "الأستاذ" التي ترأسها عبد الله النديم، وكانت تتضمن سخرية سياسية. وهكذا بدأ هذا النوع من الصحافة. وفي العشرينات، ظهر بيرم التونسي ومشى على الطريق نفسه. من أمثلة ما قاله بيرم: "ولما عدمنا بمصر الملوك جابوك الإنكليز يا فؤاد عيّنوك". وكانت المحطة التالية عند إحسان شفيق المصري، وهو من بدأ في نظم الشعر الحلمنتيشي، ليس للتسمية معنى بالفصحى، ولكنها تطلق على الشعر الساخر، وهو شعر موزون ومقفّىً، لكن به ألفاظ عامية. الجانب السياسي لم يكن الوحيد لم يكن الوحيد فمثلًا، سخر المصريون من الأغنياء بعد ثورة يوليو 1952 وصعود النزعة الاشتراكية. مرة واحد باشا افتقر، فقرر ينزل يبيع فجل في الشارع، صار ينادي على البضاعة للناس: فجل يا كلاب! الأمر استمر بالطبع مع ساسة مصر وحكامها، وامتد بأشكال متعددة ، فلم يسلم مبارك، ولا الجيش أو المجلس العسكري، ولا الإخوان المسلمين، أو النظام الحالي والرئيس عبدالفتاح السيسي. الإخوان ضحية سخرية من نوع جديد لكن الفترة التي تلت الثورة المصرية قدمت شكلًا جديدًا من السخرية على مراقع التواصل الاجتماعي، فبالبحث السريع، لا يمكن الحصول على "آخر نكتة" بسهولة، لا تلك التي تتناول الحكم العسكري، ولا حتى التي تتناول الإخوان المسلمين. فمع محاولات صناعة النكتة، والتي يمكن رصدها في محاولات على الإنترنت، إلا أنها لم تحظ بقبول شعبي، في مقابل أنماط السخرية الجديدة، مثل الصور الساخرة التي يتم اقتطاعها من مقاطع الأفلام والمسلسلات أو من مشاهد البرامج التليفزيونية. وصارت كلمات مثل "الخرفان" التي تُطلق على أفراد الإخوان الذين يتبعون قيادة الجماعة، أو غيرها، من الكلمات المستخدمة بكثرة على مواقع التواصل أو حتى في البرامج التليفزيونية. صورة من برنامج للفنان هاني رمزي استُخدمت للإشارة إلى أفراد الإخوان المسلمين البرامج التليفزيونية بالتحديد كانت مسرحًا لإنتاج النكتة، خاصة مع صعود نجم باسم يوسف، واختلطت فيها السخرية المجتمعية من "شعب الإخوان"، والمنتمين للجماعة أو مؤيديها، بالسخرية السياسية التي استهدفت تصريحات وسياسات الرئيس السابق محمد مرسي. الإخوان من جانبهم لم يقفوا مكتوفي الألسن والأيدي أمام النكتة، حاولوا إطلاق نكات مضادة، أو التأثير في المجال العام بالسخرية اللاذعة من مؤيدي الجيش ومعارضي الرئيس عبدالفتاح السيسي، الذين وُصفوا بـ"عبيد البيادة" حاول بعض معارضي الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس السابق، استخدام البرامج التليفزيونية أيضًا في السخرية المضادة، فظهرت برامج مثل "جو تيوب" في مقاومة السخرية بالسخرية. السخرية إلى اتجاه آخر "ما تعرفش نكتة جديدة" و"تعالو أقولكم آخر نكتة" و"حد عنده فزورة"، هي جمل لن تسمعها غالبًا هذه الأيام، فزمان النكتة بشكلها التقليدي الذي يعتمد على الحكاية قد ولى؛ في رأي من تحدثنا معهم. الكوميكسات، وإفيهات الأفلام هي البديل المتصدر، خاصة مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي في مختلف الأوساط. بداية الإفيهات كانت مع أفلام "بلية" لمحمد هنيدي؛ "اللمبي" و"عوكل" للممثل محمد سعد، وباقي الأفلام التي عُرضت بالتزامن ع هذه الأفلام. وقتها، ردد الجميع كلمات اللمبي، وقلدوا طريقة كلامه، وأطلقوا على أي شخص "صايع" في كل شلة اسم اللمبي. الآن اختلف الوضع، وهناك قنوات كاملة للأفلام والمسرحيات، ويتكرر عرض الفيلم أو المسرحية عشرات المرات خلال السنة، بالإضافة إلى إمكانية مشاهدتها على يوتيوب في أي وقت. حتى في المناطق الأكثر بعداً، صارت الهواتف الذكية في المتناول. "النكت بشكلها القديم لم تعد كما كانت من قبل؛ الصورة صار لها الآن دور أكبر في مقابل الحكاية"، يقول أحمد عبدالله، الذي يرى أن التغيير في لغة التواصل بين الناس، استتبعه تغيير في طريقة النكتة والقالب الذي تقال فيه. ويعزو عبدالرحمن بكر سبب تنوع موضوعات النكتة إلى توسع هذه الصناعة، بالإضافة إلى دور وسائل التواصل الاجتماعي في انتشار وتنوع النكات. ولا يمكن القول بأن السخرية الموجهة ضد أبناء مناطق بعينها في مصر قد اندثر، فما زالت النكات تُطلق على محافظة المنوفية التي ينحسر في أبنائها منصب رئاسة الجمهورية منذ القرن الماضي ولم يغادرها إلا شهوراً قصيرة. وكذلك، لم يمنع تغيّر قوالب السخرية من جعل الصعايدة موضوعاً أساسياً، فبرامج كوميدية، مثل "" وأحيانًا مثل لا تزال تقدم الصعايدة بشكل ساخر، وما زال الفنان أحمد مكي يقدم شخصيته "الكبير أوي" في مسلسل رمضانيّ سنويّ منذ عدة سنوات، ولا يزال الآلاف من منتجي المحتوى على موقع فيسبوك يستخدمون إفيهات الأفلام والـmemes للتعبير عن مواقفهم. في كل الأحوال، يبدو أن السخرية لن تتوقف، والمصريون الذين يعانون جراء الفساد والقمع والتوترات المجتمعية لن يتوقفوا عن استخدام النكتة كسلاح أخير، وربما وحيد، للرد على حياتهم.