كنتُ قد أعددت مساحة هذا المقال وبدأت في جمع المعلومات لنعي الروائي الراحل ماركيز، ولكن طوفان المقالات التي عصفت بالصحف حولت ذكراه مزارا شعبيا مطوقا بالمفردات الفاقعة والمستهلكة، وتمهلت كوني أتحفظ من الكتابة المناسبتية التي تشبه إعلانات النعي في الصحف، خشية التورط بالنمط الاستهلاكي لرثاء المبدع الموغل في المدهش الغرائبي والعجائبي وهو الذي أشرع البوابة السحرية لآداب أمريكا اللاتينية، وعالم الجنرالات، والمدن التي يستمر هطول المطر عليها مئة عام، والسرد الذي لم يدهش العالم فقط بل أيضا خلق بيننا وبينه كشرقيين هذا التماهي الذي يجمعنا فوق أرض الخيال السحر والأسطورة. لذا كما يقولون ضربت صفحا عن الكتابة لماركيز واستدنيت رواية تستحق الكتابة عنها أو على الأقل التوقف عندها ومساءلتها، وهي رواية (مولانا) للروائي المصري إبراهيم عيسى. والرواية تدور حول شخصية رئيسة هي الشيخ (حاتم الشناوي) حيث تصوره الرواية شيخ دين مستنيرا يحظى بحضور إعلامي طاغ ونسبة مشاهدين مرتفعة، نظرا لكونه استطاع أن يستقطب الأذواق عبر خطاب ديني معتدل ومتسامح مقتربا من قضايا الشباب وهموم العصر، هذا الخطاب يقدمه الشيخ حاتم من خلال هيئة خارجية تكسر الصورة النمطية لرجل الدين التقليدي عبر الوجه الحليق والبزة الغربية فكان النتاج ما اعتاد الإعلام المصري أن يسميهم بالشيوخ المودرن. الرواية تأخذنا باطلالة عميقة على طبيعة العلاقات التي نشأت داخل المؤسسة الدينية الرسمية والسلطة وبقية فئات المجتمع، فإن كان هناك استحواذ منبري على الدين المعتدل نتاج المؤسسة الأزهرية والذي يحرص دوما على ايجاد مساحة من التوافق بينه وبين السلطة السياسية، فإن الرواية تمر أيضا بنا على بقية التيارات الدينية في مصر، سواء أكانت حركات التكفير أم الصوفية وأخيرا الأقباط، ثم تبرز لنا العلاقات التجاذبية المتوترة بينها بشكل تستثمره السلطة دوما لمصلحتها. رواية مولانا هي لجميع من يحب أن يعرف مصر من عمق الداخل بعد أن تحجبت.. وبعد أن اضمحلت وتوارت جميع تيارات اليسار عن فاعلياتها الثقافية والاجتماعية، وكيف أمست مصر الداخل بعد أن هيمن على البنى الفوقية لديها تيارات الدين المسيّس. الرواية على مستوى السرد تبدو كتلة طويلة متصلة من السرد المتلاصق، مع مقاطع حوارية طويلة يدخل فيها نقاشات دينية وفكرية واستشهادات من نصوص قد تصيب القارئ بالملل أحيانا، نتيجة عدم محاولة الروائي تقطيع الأحداث عبر الفصول بشكل يضفي على خيط السرد الحيوية والرشاقة. لاسيما أننا نعرف أن النص السردي ليس فقط أسفنجة عملاقة تمتص ما حولها ومن ثم تعيد عصره على الورق، بل لابد أن يكون هناك معامل ومجسات متيقظة تفرز وتغربل. هناك قوالب شخصيات نمطية كثيرا مانراها تتكرر في كثير من الأعمال الروائية المصرية ووجدناها تتكرر في رواية مولانا، كالرئيس السابق أو أبنائه بما لهم من سطوة وحضور سلطوي متغلغل عبر المصالح الاقتصادية، مليارديرات الانفتاح وأموالهم المشبوهة، جيش من قناصي الفرص والمتنفعين، جميع هذه القوالب ظهرت في رواية مولانا فهي التي تدفع عربة السرد على امتداد مايقارب من 550 صفحة. لكن هذا لايمنع أن تستوقفنا المهارة الفنية التي صنع بها الروائي إبراهيم عيسى شخصية الشيخ (حاتم الشناوي) بجميع أبعادها وجعلها حاضرة متوقدة بين يدي القارئ بمخزونها الفكري والنفسي وقفشاتها الطريفة. الرواية وإن كان فيها بعض الارتباك الفني، إلا أن هذا لايمنع حضورها التأريخي والوثائقي بشكل مميز.