لا يحمل ذكرى تحرض على الكتابة عن فيروز، لكنني أجد صوتها مع قهوة الصباح وكلمات تدفع إلى التفاؤل طلعت يا محلا نورها شمس الشموسة، وحدهما المناسبة والدافع والمحرض على الكتابة عن جارة القدس.العرب رابعة الختام [نُشر في 2017/04/17، العدد: 10605، ص(21)] وحدها فيروز تستطيع تغيير قواعد العشق والهوى وأن تسن للحب سننا جديدة لم يعهدها أحد من قبل، وتحرّك مذاهبه الثابتة في كافة الاتجاهات. فيروز رهان الحب الباقي، تعدّل كما شاءت من قوانين الغرام ما لم نألفه، صوتها الدافئ يشعرك بزخات مطر حنونة في أواخر شتاء متردّد بين البقاء والرحيل. صباحات فيروزية بالتأكيد تختلف عن غيرها، فلا قهوة عربية بطعم الهيل والمستكة تحلو من غير صوتها، تعطي قهوة الصباح نكهة مختلفة ومذاقا يشبه رائحة الياسمين، يبث موجات تدفّقية من الحب والجمال والأمل في يوم مختلف. تأتيني قهوتي الصباحية ودون أن أشعر أعبث بهاتفي لينبعث صوت فيروز يحمل شجنا يسكن الوجدان، أصبحت أصابعي تتحرك وحدها في متلازمة تذهلني، حنجرتها الذهبية صديقة الصباح وسيدته بلا منازع. شامية فيروز تنطق بها أغانيها العذبة، فهي من أكثر وأروع من تغنوا بجمال الشام وأرضها، فهي نهاد وديع حداد ابنة السوري السرياني وديع حداد من مدينة ماردين، شامية الأصل، لبنانية المولد، عربية الهوى والهوية، نشدت “سَائِلِيني حينَ عَطَّرْتُ السَلَامْ كيف غارَ الوَرْدُ واعْتَلَّ الخُزَامْ/ ظَمِئَ الشرقُ فَيَا شامُ اسْكُبي واملئي الكأسَ لَهُ حتّى الجَمَامْ”. تفجّر حبها الدمشقي بكلمات الشاعر سعيد عقل وصدحت “أحب دمشق وأنت الثرى الطيب، غضبت وما أجملها، فكنت السلام إذا يغضب”، فاستحقت لقب ياسمينة الشام. ساحرة بصوتها الرقراق، شجي النغمات، تأسرك، تسحرك، تدغدغ مشاعرك وتصطحبك في رحلة عجيبة على بساط الريح. عذوبتها تشعرك بأنك وحدك المقصود، وأنها تغني لأجلك أنت، تؤثر في مستمعيها إيثارا فريدا لكل منهم، تملأ كأس الهوى لكل واحد وكأنه وحده يملأ القاعة، وحده جاء إليها طائعا منساقا خلف مشاعره، وأذن تحلم بكلمات ولحن يحملهما صوت ينبض بمعنى كل حرف. حين رآها الكاتب الصحافي والمحاور الأشهر مفيد فوزي في مطار القاهرة الدولي، فاجأها بصوته الجهوري “الناس بيسألوني، دينك إيه، أنت مسلم ولا مسيحي، قلت أنا ديني فيروزي”. وهكذا الفيروزة جمعت الكل حول صوتها، فلا أحد يسأل أو يختلف على صوتها، أيا كان جنسه أو دينه أو عرقه أو أيديولوجيته، فالجميع فيروزي الهوى، وسحر صوتها يقتلنا عشقا. من حجر كريم اشتق اسمها، فجمعت السحـر والجمـال، وروعـة مدفونة في وهج لا يخبو في كـل ألوان الغناء، للوطن أوجعتنا انتماء ووطنية، وفي الحب علمتنا الهوى والغرام، حتى الغناء الشعبي أبدعت فيه. رغم الاختلافات الجوهرية بين الجميع اتفق عليها الكل، فكانت حين تخرج من منزلها المتهدم بعضه يوقف إطلاق النار احتراما وحبا لها، قيمة وقامة تعانقان أشجار الأرز العتيقة. غنت لمدينة الثلاث ديانات، أرض السلام، زهر المدائن، لأجلك يا قدس يا مدينة الصلاة، فوحدت التاريخ ومزجته بالجغرافيا، جمعت السياسة بالحب، خلطت الشجن والفرح في حنجرة هاربة من كل المقاييس، فوحدها فيروز القياس والنظرية والبرهان، صوتها كل المعطيات والنغم الثري في زمن الفقر الفني. قال عنها أنسي الحاج “بعض الأصوات سفينة، وبعضها شاطئ، وبعضها منارة، وصوت فيروز هو السفينة والشاطئ والمنارة، هو الشعر والموسيقى والصوت، والأكثر من الشعر والموسيقى والصوت، حتى الموسيقى تغار منه”. ليس التوقيت بيوم ميلادها، ولا يحمل ذكرى تحرض على الكتابة عن فيروز، لكنني أجد صوتها مع قهوة الصباح وكلمات تدفع إلى التفاؤل “طلعت يا محلا نورها شمس الشموسة”، وحدهما المناسبة والدافع والمحرض على الكتابة عن “جارة القدس”. كاتبة مصريةرابعة الختام