منذ أن تعدت طور الطفولة بقليل وجدت «كوثر» أن عيون الشباب والرجال تلاحقها وعبارات الغزل تحاصرها لجمالها رغم فقرها، وقد تقدم عشرات الخطاب إليها لكنها أصرت على رفضهم جميعا، ولم تعبأ بأحد منهم، فقد كانت طموحاتها تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، فهي تحلم بارتداء الملابس الفاخرة واقتناء السيارات الفارهة والمنازل الفخمة، وبالطبع فإن أحدا من الذين تقدموا لخطبتها لن يستطيع أن يحقق لها هذه الأحلام.كانت الابنة الكبرى لوالديها الفقيرين ولها من الأشقاء خمسة، ومع ذلك أصرت على التعليم حتى حصلت على دبلوم الثانوي التجاري بتفوق كان يؤهلها لدخول كلية التجارة، لولا ضيق ذات اليد واللهفة إلى الوظيفة، وبمجرد حصولها على شهادتها بدأت في البحث عن عمل لمساعدة والدها وتحمل جزء من نفقات الأسرة، خاصة وأن والدتها كانت مصابة بعدد من الأمراض، علاوة على ضعف شديد في الإبصار، وتحتاج إلى نفقات كثيرة للعلاج. كانت «كوثر» تظن أن حصولها على شهادتها سيفتح لها أبواب العمل على مصاريعها، لكنها أفاقت من غفوتها على الواقع المؤلم، ولم تجد غير أعمال بسيطة بمرتب ضئيل لا يكفي لمتطلبات الحياة الضرورية..تنقلت بين وظائف عدة فعملت مرة بائعة في محل لبيع الملابس وأخرى سكرتيرة في شركة خاصة، وإن كانت في الحقيقة مجرد عاملة نظافة حتى ابتسم لها القدر عندما التحقت بالعمل مضيفة في إحدى الكافتيريات الشهيرة عن طريق أحد الجيران، وكانت تعطي أجرها بالكامل لوالدتها، وكلما مرت الأيام تزداد الأمور سوءا، وتتمنى أن تفلت من مستنقع الفقر الذي تعيش فيه، فقد كانت تعتقد أن العمل سيكون هو المفر، لكنها تأكدت أنه لا أمل فيه وبعد تفكير طويل توصلت إلى أن الحل الوحيد هو الزواج، لكن ممن تتزوج إنها تريد زوجًا يغير حياتها وينتشلها من فقرها وتتمتع معه بنعم الحياة، تغير ثوبها المهلل الذي لا يتغير حتى في العيد فكم من مرة وقفت أمام محال الملابس تشاهد معروضاتها وهي تتخيل نفسها في كل ثوب.. جاءتها الفرصة التي انتظرتها طويلا عندما لاحظت أن تاجرًا ثريًا من الزبائن الذين يترددون على الكافتيريا لمقابلة أصدقائه يغازلها بنظراته.. كان «زكريا» رجلا عصاميا بدأ حياته من تحت الصفر وأخذ يتنقل بين المهن حتى وجد نفسه في مهنة المقاولات وتدرج فيها من عامل باليومية إلى ملاحظ للعمال، وانتهى به المطاف إلى مقاول، لكنه كان مرتبطا بابنة عمته حسب الاتفاق بين الأسرتين على زواجهما، وبمجرد أن استقرت به الحال بالعمل كعامل معمار لدى أحد كبار المقاولين تزوج من ابنة عمته في حجرة بسيطة فوق سطح إحدى العمارات وشدت العروس من أزره ووفرت له كل سبل الراحة ليتفرغ لعمله، وعاشا معا في سعادة لا تشوبها أي شائبة لكن طموحاته كانت بلا حدود وبعد أن اثبت إخلاصه وتفانيه في العمل ازداد طموحه ولم تبخل زوجته عليه بشيء وبعد وفاة والدها ورثت هي وأشقاؤها منزلا قديما متهالكا وبعد انقضاء فترة الحداد على والدها هرولت لأشقائها تطالب بنصيبها في الميراث وبدون أن يطلب منها «زكريا» أعطته ميراثها بالكامل، ليحقق طموحه ويكون مقاولا مثل المقاول الذي يعمل لديه، اقتحم عالم المقاولات وبدأ بعمليات صغيرة وبعمله وجهده بارك الله له وبسرعة البرق ذاع صيته في عالم المقاولات، وأصبح يتولى عمليات كبيرة وينافس كبرى الشركات، وتغير الحال واستبدل المكتب الصغير بشركة كبيرة يعمل بها العديد من الموظفين، وكان لابد بالتالي أن تتغير حياته الشخصية مع التغير الذي طرأ عليه، فاشترى شقة كبيرة في منطقة راقية وانتقلت إليها زوجته وأولادهما الأربعة (ولد وحيد و3 بنات) لكنه بقدر سعادته بتحقيق أحلامه وبالثراء الذي حققه كان يشعر بالتعاسة في حياته الخاصة، فزوجته تذكره دائما بأنهما كبرا في العمر وانشغلت عنه بأولادهما ونسيت أنه رجل من دم ولحم وله حقوق يجب أن يحصل عليها مهما بلغ من العمر، لم تصده «كوثر» بل تركت له الباب مواربا، فقد كانت تنتظر مثل هذه الفرصة فليس لديها ما تخسره وبقدر ما طمع هو في جمالها وشبابها طمعت هي في ثروته ورأت فيه الحل المناسب لعبور صحراء الحياة الوعرة التي تعيشها، والتي لا تترك لها مجالاً للرومانسية أو حتى الأحلام الوردية، وبالطبع رجل ثري مثله يعتبر صفقة رابحة ويمكن أن يكون طوق النجاة للخروج من عنق الزجاجة والفقر المدقع الذي تعيش فيه وتتمتع معه بنعم الحياة، فعلى الرغم من صغر عمرها في ذلك الوقت فقد جعلها الفقر الذي فرضته عليها الحياة تنظر للحياة نظرة مجردة من كل المشاعر والأحاسيس الإنسانية، بدأ «زكريا» الذي تجاوز الخمسين من عمره يغازلها ويلقي على مسامعها كلمات الغزل والإطراء على جمالها ورقتها وخفة ظلها، لكنها كانت تتدلل عليه بطريقة تجعله لا يقطع الأمل حتى عرض عليها الزواج فاشترطت عليه تطليق زوجته الأولى بحجة أنها لا تقبل العيش مع ضرة، لكن «زكريا» رفض طلبها متعللا بأن زوجته الأولى قريبته ووقفت بجواره طوال مشوار كفاحه واشترط أن يكون الزواج سريا لرغبته في الحفاظ على كيان أسرته من الانهيار، وحرصا على مستقبل أبنائه وحتى لا تضطرب حياته معهم فوافقت «كوثر» على رغبته في سرية الزواج رغم اعتراض والديها على الزواج بسبب فارق السن الكبير، بعد أسابيع قليلة تم الزواج بعد أن نفذ العريس كل وعوده فقد أسس شقة تمليك باسمها بأفخر الأثاث كما أهداها سيارة خاصة وقدم لها شبكة ثمينة ووفر عملاً لشقيقها وشقيقتها، لم تشعره «كوثر» أبدا أنها الزوجة الثانية كما كانت لا تتحدث معه عن زوجته الأولى أو تبدي غيرتها منها وتفننت كأنثى في إسعاده، حتى شعر بأنه عاد شابا في العشرين وأنه لم يتزوج من قبل وأصبح يقضي معها أضعاف ما يقضيه في شقته الأخرى، عاشت معه في الخفاء وكانت سعيدة بحياتها وشعرت بأن الدنيا مؤخرا ابتسمت لها بل ضحكت لها ضحكه عريضة ولم تتخيل لحظه ما تخبئه لها الدنيا وراء هذه الابتسامة، أثمر الزواج عن 3 أطفال في أعمار مختلفة وكانت الحياة هادئة ولم يبخل عليها زوجها وقدم لها كل صنوف الهدايا الثمينة وطيلة تلك الفترة لم تعرف زوجته الأولى بزواجه الجديد، حتى شعرت بالتغير الذي طرأ عليه وبدأت تراقبه وتتابع خط سيره إلى أن اكتشفت الحقيقة فهددته أن تسحب منه كل شيء يملكه وخيرته بينها وبين «كوثر» فاختارها وبرهن على ذلك بوثيقة طلاقه «كوثر»، وقبل مرور فترة العدة حضر «زكريا» ومعه المأذون إلى منزل الأسرة وتم عقد القران من جديد، لكن بعد حوالي خمسة أشهر فقط كانت «كوثر» قد حملت في الطفل الرابع وفوجئت بأن زوجها قد انسحب من حياتها بشكل نهائي، فأصيبت بحالة من الذهول ومر أسبوع عليها كأنه دهر والدموع لا تفارق عينيها وحاولت الاتصال به عدة مرات دون جدوى، اعتقدت «كوثر» أن زوجته الأولى علمت أنه أعادها إلى عصمته فأجبرته على تطليقها مرة أخرى، لكنها بعد وضع طفلها الرابع لم تستطع تسجيله واستخراج شهادة ميلاد له فطلبت من «زكريا» تسجيله لكنه رفض وأخبرها بأنها لا تمتلك أي أوراق رسمية أو قسيمة زواج جديدة وأن المأذون كان مزيفا ولن تتمكن من الوصول إليه مهما فعلت.دارت بها الدنيا وبحثت هي وأسرتها عن المأذون بلا فائدة فلم تجد أمامها سوى تحرير محضر في قسم الشرطة بكل ما حدث بجميع التفاصيل، كما أقامت دعوى أمام محكمة الأسرة تطلب فيها إثبات العلاقة الزوجية ونسب الطفل الرابع.