عملية التعليم لا تعني فقط أن نعلم الطفل الأرقام والحروف، بل وأيضا القراءة ما بين السطور، وفهم معنى المجادلة والرفض، حتى لا يتقبّل كل ما تعرضه عليه التكنولوجيا من آراء ومعلومات على أنه من المسلمات.العرب يمينة حمدي [نُشر في 2017/04/14، العدد: 10602، ص(21)] لم يعد الكثيرون في ظل الثورة التكنولوجية التي يشهدها العالم المعاصر، قادرين على إجراء عملية حسابية أو حل معادلة رياضية من دون الاعتماد على الأجهزة الذكية، فالتعويل على التكنولوجيا أغناهم عن التفكير، ولو لوهلة من الزمن في إيجاد الحل ذهنيا أو بالاعتماد على الورقة والقلم. ولماذا العناء؟ والحل أسهل ما يكون ولا يحتمل تضييع الوقت، هكذا يكون جواب الأغلبية، فالتكنولوجيا أتاحت لهم طرقا أسرع للوصول إلى النتيجة الصحيحة، من دون جهد ولا تفكير، بل بنقرات قليلة على أزرار الأجهزة الرقمية. ولكن في مقابل الوقت والجهد وسيل المعلومات التي وفرتها التكنولوجيا، فإنها أفقدت الناس القدرة على التفكير، وتدريب القدرات الذهنية التي تساعدهم على تعزيز مستويات ذكائهم. ولم يعد من المستغرب اليوم أن يعتمد الأطفال على تكنولوجيا الهواتف الذكية والكمبيوترات اللوحية في إنجاز واجباتهم المدرسية، بعد أن أصبحت منازلهم تحوي عدة أجهزة رقمية متصلة بشبكة الإنترنت. وبالرغم من أن البعض من الآباء قد يتحمسون لرؤية خبرة أطفالهم في التعامل مع الشاشات، التي حلت محلهم في مساعدة أبنائهم على القيام بواجباتهم المدرسية، إلا أن الخبراء يعتريهم القلق من أن تفقد الأجيال القادمة القدرات التي اكتسبتها من آبائها وأجدادها، كتحديد الاتجاه وتقدير السرعة والمسافات والقياس، والأسوأ من هذا كله أن صحتهم الذهنية قد أصبحت متشابكة مع آلات لا تتطابق أجنداتها دائما مع أجنداتهم. وعلى أي حال، فإن التكنولوجيا ستبقى ملازمة للإنسان، فحتى المدارس الابتدائية أصبحت تقدم إلى التلاميذ الملتحقين بها أجهزة لوحية، وذلك لتسهل عليهم عملية التعليم، وخاصة بعد أن أصبحت تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات جزءا لا يتجزأ من المقرر الذي يدرسونه. وفي الحقيقة لم تكن التكنولوجيا يوما مسيطرة أو متحكمة في خبرات الناس ومؤثرة على مهاراتهم أو مضرة بمستويات ذكائهم، بل إن البيئة الاجتماعية والأسرية هي التي تشكل كيفية تفاعل الأشخاص مع هذه الوسائل، فالأطفال لا ينجذبون إلى الشاشات التي تعمل باللمس، لأنها جميلة ومثيرة، بل لأن آباءهم مهووسون بها وعاجزون عن إبقائها بعيدة عنهم ولو لدقائق معدودة. فخبرات الأطفال في التعامل مع التكنولوجيا ترتبط بالأساس بالسياق الاجتماعي والثقافي للأسرة والمجتمع، وحينما يعلم الآباء أطفالهم حل المسائل الحسابية بأنفسهم، ويساعدونهم على حفظ جدول الضرب ويدربونهم على المطالعة من الكتب، بدلا من أن يشجعوهم على الاعتماد على الأجهزة الذكية في كل شيء، فإن ذلك لا يعني أنهم بدائيون أو عالقون في الزمن الماضي، ولكن لأن التكنولوجيا الأكثر ذكاء ليس في مقدورها أبدا أن تحل محل مهارات الحفظ والملاحظة وتدريب الذهن على التفكير والاستنتاج، التي تتيح للأطفال القدرة على حل المشاكل المعقدة، كما تساعدهم على تكوين أفكارهم الخاصة، التي من شأنها أن تحقق لهم النجاح على المستوى المهني والشخصي. وخلاصة القول إن عملية التعليم لا تعني فقط أن نعلم الطفل الأرقام والحروف، بل وأيضا القراءة ما بين السطور، وفهم معنى المجادلة والرفض، حتى لا يتقبّل كل ما تعرضه عليه التكنولوجيا من آراء ومعلومات على أنه من المسلمات. صحافية تونسية مقيمة في لندنيمينة حمدي