يلفت انتباهك محمد أنيس وهو يعلق بعفوية على فسيفساء المشاركين في بطولة مناظرات الجامعات باللغة العربية، قائلا "ما جاء بكل هؤلاء هنا ومن كل أصقاع المعمورة إلا عشقُ اللغة العربية".ولا تميز من لكنته البلد العربي الذي ينتمي إليه، فيدفعك الفضول إلى التشويش على حبل تفكيره لاستجلاء الأمر، فيفاجئك بأنه من الهند وبأن لا أحد في أسرته يتحدث اللغة العربية. محمد أنِسَ اللغة العربية وتملّكه حبها، فكان يجرد من نفسه مخاطبا يحاوره ويهديه رائق التعبير الفصيح، ويسمعه الحديث ارتجالا، وربما رد عليه المحاور المتخيل بأحسن مما قال وأوفى، ولو أطلّ عليه أحد وهو في هذه المناجاة والمحاورات لأوجس في نفسه خيفة.ولسان حال محمد يقول هنا، أما هؤلاء فيتناظرون -ربما- لأول مرة، والمناظرة في عالمي الخاص جزء من حياتي اليومية، أنا هو الموالاة دائما ومحاوري هو المعارضة. إصرار وإتقانبلغت اللغة العربية في عصورها الزاهية ما بلغ الليل والنهار، فسكنت قلوبا شغفها حُبها فكان هجيرها التغني بها متلذذة بسحر الحرف ونبل المعنى.. من تلك البلاد التي جاءتها "مستكشفة" فاتحة، عاد الأحفاد إلى المنبع، تسكن قلوبَهم الغضة حكاياتٌ وذكريات، ويعمر مخيلتهم الخصبة زهو الفصاحة.تلحظ إصرارهم قبل سماع مخارجهم، تخرج اللغة سلسة طيعة فصحى رغم بعض اللثغات، فتعرف أن القوم خاضوا حربا ضروسا وأخذ منهم المران والدربة شهورا بل أعواما ليستقيم لهم المخرج وتنقاد لهم الكلمة، في بيئة لا يتحدث فيها بهذه اللغة متحدث، فتعظم إصرارهم ويعجبك شأنه.لم يكن محمد يتخيل أنه سيضع عصا الترحال في أرض أكلة الشيح والقيصوم، وأنه سيحاور أخيرا أشخاصا من لحم ودم يحبون اللغة كما يحبها، وربما مرت بهم تجارب مثل التي مرت به.صورة جماعية للمتناظرين (الجزيرة) حكايات مع اللغة ومن أجل اللغة تشجي وتطرب، لكل مشارك قصة تبدأ شغفا وتنتهي إنجازا.. طالبة من شنغهاي بالصين ينصبّ الحديث من فيها انصبابا كأن خالتها بالدهناء، لا عوج ولا أمْتَ، لا لكنة ولا حبسة، تنثال اللغة انثيالا فلا تجد لذلك تفسيرا إلا أن حب اللغة أطلق لسانها وأنار بيانها.وتندهش من فصاحتها وهي تخبرك أن الصينيين يجدون صعوبة في نطق الضاد والطاء والذال والزاي.. فتنساب حروفها من مخارجها كما لو كانت تمرنت عليها مع أطفال الحي في القاعدة النورانية.صحيح أن جامعة قطر العربية حلت في المرتبة الأولى هذا العام 2017، لكن الجامعة الإسلامية في ماليزيا بطلابها ذوي الطرابيش السود والأُزُر الملونة تفوقت على باقي الجامعات العربية الأخرى. وكانت جامعات غير عربية قد توجت ببعض المناظرات السابقة، فمن يدري لعل محمدا ورفاقه أو الطالبة الصينية وأترابها يفعلونها في المرة القادمة وتذهب الجائزة بعيدا عن منبع اللغة العربية، ثم لا تعود إلا "مستكشفة".