لو بقي ديوان الكوفة وسط لندن إلى اليوم لاحتفى ببلوغ مؤسسه محمد مكية المئة عام. احتفظ بصورته هناك حيث كان يجلس خلف مكتبه، أمرّ على المكان الذي تغير وأشيح بوجهي غير مصدّقة ان الزمن يركض بهذه السرعة. أراه وهو يستعجل عباراته عن التفكيكية والبنيوية، فأصرفه بسؤال عن بغداد فيتأجج حماسه. يشير إلى رف يصطف أمامه ليقول أنني أحفظها هنا ألف صورة وصورة. لا أعرف لماذا خطر ببالي ان مكية يشبه الكثير من رجال مدينته الذين أعرفهم، مسحة الأنوثة التي تمر على البدن الرجولي عندما يشيخ، وبقايا الداندي العراقي حيث يضع شالا من الموسلين بدل ربطة العنق، ويركن غليونه على الطاولة. لم يصب بلعنة الأمراض التي تورثها هذه العادة، وكانت زوجته مدخنّة ترتسم ببالي صورتها وفي فمها سيكارة. كل مرة ألتقي به يقول اكتبوا، اكتبوا عن بغداد. ذهب إلى هناك يبحث عن بيته الذي مد رصيفه إلى النهر كي يلامس الماء جلسته، كما يفعل البغداديون في عصور غبرت. هل عثر على هذا البيت؟ أشك بهذا. أشك انني أنا شاهدت بغداد، فكيف بشيخ عشت عيناه. اسأله من اين لك هذا اللقب "مكية" فهو اسم أنثى، يقول أنه اسم جدته، وكانت لفرط قوتها ينسب الذكور أنفسهم إليها. ضحكت من المفارقة التي مر عليها قرن بأكمله، وتذكّرت جدتي التي كان أخوالي يطلق عليهم الناس أبناء أنيسة. من قال ان المرأة كانت وكانت، فكل امرأة تكتب تاريخها بمداد روحها. نهضت على يديّ مكية وصحبه في أربعينات القرن المنصرم، ثقافة المكان، وثقافة المكان لا تعني فقط العمران حتى ولو كان الأساس الأول فيها، بل هي روح تصوغها خيالات ساكنيه. كان مكية بين معماريي العراق أكبر الحالمين، أسس أول فرع لهندسة العمارة في جامعة بغداد، وكان يرى بغداد وهي تحمل سلال فاكهتها إلى السوق، فتخيلها سيدة صالون ترطن بالانكليزية ولكنها تحتفظ بعطر الورد البلدي، قلادة مثقلة بقوس قزح التواريخ. كما بيجمالون برنارد شو، تخيل مكية مدينته بعد ان عاد من انكلترا مهندسا معماريا: فكرة تتجسد بامرأة، تعسر وتتلكأ ولكنها تخرج إلى النور كما يشتهيها العقل. بغداد العباسية لم تبق منها الطوفانات إلا القليل، ولكن أهل محلة مكية "صبابيغ الآل" يصرّون على انهم ورثة التاريخ العباسي. أنظروا إلى منارة سوق الغزل، وستكتشفون أن الخليفة الأخير صلى هنا ثم اختفى بضربة سيف من وريث كل السلالات التي وفدت العراق. كانت الفيضانات والأوبئة تخفي وجه بغداد وتزيح بانحسارها ما تبقّى من التواريخ. ولكن مكية كان ينقّب عن كل شاردة وواردة في تلك التواريخ كي يجد لعاصمة الرشيد نسبا معماريا. حمل معه تلك العدة إلى دول كثيرة، الجزيرة العربية إسلام آباد تركيا الغرب وعاد بمشاريعه إلى بغداد. بقي محمد مكية يؤثث المكان العراقي مهما نقصت الجغرافيا، وإلا كيف اختفى ديوان الكوفة بلندن بعد ان أتعبت السنوات جسد هذا الرجل. هناك العشرات من رجال الأعمال العراقيين في الخارج الذين يملكون القدرة على الاحتفاظ به، ولكنهم يفتقدون ذوق مكية وأناقة علاقته بالأماكن. كان الديوان وطنا للعراقيين، شهد صداقات ما خطرت ببال، ومر على منصته الكثير من الأدباء والفنانين والسياسين، وكانت لمكية ذائقته الخاصة ولمساته الراقية: فتحة الضوء في الأعلى وهي تخترق البناء البريطاني وتحوله إلى مكان شرقي، ومكتبته التي تصطف في الطابق الثاني للبيت العراقي الذي تجده في تصميمات مكية حتى تلك التي وضعها في الخارج. أرشيفه النادر الذي لا نعرف أين ذهب الآن. لوحاته، ديكوره، أعمدته، توزيع الضوء والظلال في الزوايا، ثم السجاد الجنوبي الذي يزين المستراحات. نجلس ونثرثر، بعد معرض او ندوة ثقافية، كأننا نحتسي الشاي في بيوت الأهل. كنا ندرك ولا ندرك قيمة هذا الرجل الذي يخطو نحو تسعيناته، كبيرنا الذي يحتفظ بخزائن السنوات التي لم تعطب فؤاده ولم تمس خدوش ذاكرته. ينتقي منها ما يشاء منذ ان وضع تصميما لجامع الخلفاء ببغداد. هو من بين المئة شخص على أحسن تقدير الذين بنوا العراق وأسسوا كيانه الجديد كما يقول رفعت الجادرجي. كل الأمم تخترع تاريخها، ومكية كان من مخترعي التاريخ العراقي بعد ان محته الأنواء. فمنارة جامع الخلفاء العباسي اقتلعها المغول عند دخولهم بغداد، ولكن مكر التاريخ أعاد تصميمها على يد حفيد هولاكو. أعتنق المغول الإسلام بعد ان دمروا عاصمة امبراطوريته الأخيرة، وكان ايمانهم الصحيح هو اعادة الاعتبار للفن الإسلامي الذي هو ذاكرة هذه الحضارة. مكية مهووس بتاثيرات الفن الإسلامي في فن التجريد الغربي، انها دورة الحياة هم يؤثرون فينا ونحن نؤثر فيهم. أنظري إلى تلك الخطوط العبقرية التي وضعها الفنانون المسلمون، عبقرية الحروفية وفن الأرابسك، فكيف لموندريان وكاندسكي ان لا تدلهم تلك الفنون الى مآرب التجريد؟ بمقدوري أنا أن أستعير من موندريان، فهو أخذ من تراثي وهويتي. يداه تتحركان بما يشبه الإيقاع، كان يحلم بمنصب واحد فقط لا غير، ولكن الطرق سدت بوجهه، ان يكون أمينا للعاصمة. افتح فمي دهشة، أمين عاصمة فقط، وأصغر مثقف يحلم برئاسة الجمهورية العراقية ! يقول أن رأسه يحتفظ بتصميمات لبغداد مثلما يحتفظ العاشق بهدية محبوته التي تصر على أن تكون في سفر طويل.