راعي غنم فوجئ بسيارة (بي إم دبليو) جديدة تقف قرب قطيعه ويخرج منها رجل حسن الهندام نظيف المظهر لا تبدو عليه وعثاء السفر، قال للراعي: إن أخبرتك بعدد البهائم التي ترعاها هل تعطيني واحدا منها؟ أجابة الراعي: نعم.. فأخرج كمبيوتراً صغيراً وأوصله بهاتفه النقال ودخل الإنترنت وانتقل إلى خدمة تحديد المواقع ثم فتح "غوغل ماب" ثم وكيبيديا ثم صنع جدولاً في إكسل ثم أجرى ثلاث مكالمات هاتفية وخلال دقائق التفت نحو الراعي وقال له: لديك أكثر من 160 رأساً من البهائم؛ هل هذا صحيح.. ابتسم الراعي وقال: صحيح، تفضل باختيار الخروف الذي يعجبك.. ترك كمبيوتره فوق السيارة ودخل بين القطيع ثم حشر الحيوان الذي اختاره في الصندوق الخلفي للسيارة.. وقبل أن يذهب قال له الراعي: انتظر دقيقة لو سمحت؛ لو أخبرتك عن طبيعة عملك هل تعيد إلي ما أخذت؟ وافق الرجل، فقال له الراعي: أنت مستشار تعمل لدى مسؤول كبير.. دهش الرجل وقال: هذا صحيح كيف عرفت ذلك؟ قال له الراعي: بسيطة، فقد أقحمت نفسك في أمر لا يخصك ولم يستشرك فيه أحد.. وأجبت على سؤال لم يطرحه أحد غيرك وكنتُ أعرف إجابته سلفاً.. ثم خلقت موقفاً يسمح لك بأخذ "شرهة" وممتلكات تخص غيرك. والمشكلة أنه شيء لا تحتاجه ولا تعرف ما هو بالضبط.. أرجوك أخرج كلبي من شنطة سيارتك فهو يعمل بجد واجتهاد على حماية 213 خروفاً!! هذه القصة الطريفة تخبرنا بأهم صفات المستشار أو من يدعي الخبرة أكثر من أهلها.. فهو صاحب مظهر رزين، وكلام منمق، وتصرفات توحي بالخبرة والمعرفة.. يعتمد على الاحتمالات وتحقيق نجاحات تقريبية لا تبعده كثيراً عن الصواب.. يدعي معرفته بما ستؤول إليه الأمور، في حين أن ما يبرع فيه فعلاً هو تفسير الأمور (بعد وقوعها).. مشكلة الخبراء والمستشارين أن لا أحد يمكنه التنبؤ بالمستقبل أو معرفة ما ستؤول إليه النتائج بدقة. لهذا السبب يعمدون لتقديم احتمالات كثيرة ومطاطة تصلح لأي نتيجة يمكن ظهورها مستقبلاً (وهذا بالمناسبة ما تفعله أيضًا قارئة الكف والفنجان).. وهذه الآلية تذكرني بما يعرف بظاهرة "البجعة السوداء" التي نبه إليها الفيلسوف اللبناني "نسيم طالب" المعروف في أميركا باسم فيلسوف الصدفة.. فقد نشر كتاباً تحت الاسم نفسه يثبت فيه استحالة التنبؤ بالأحداث المستقبلية مهما كانت كبيرة أو مؤثرة (مثل تفجيرات سبتمبر، والأزمة المالية، وفقاعة الإنترنت، وانهيارات الأسهم، وثورات الربيع العربي.. ناهيك عن فوز ترامب على هيلاري كلينتون).. فرغم وجود آلاف الخبراء والمحللين والإشارات المسبقة يفشل الجميع في التنبؤ بالكوارث وما سيحدث في المستقبل، ولكن بعد وقوعها يعمد الخبراء لتفسيرها وادعاء معرفتهم بها. أنا شخصياً لا أرى فرقاً بين المستشارين والمحللين الماليين الذين تراهم في القنوات الاقتصادية. يفشلون في تقديم نصيحة تحمي أسهمك واستثماراتك من الانهيار، ولكنهم ينجحون في تحليل أسباب الانهيار ذاته بعد أن تقع الفأس في الرأس ويصبح كلامهم.. "تحصيل حاصل"..