تحفل الشارقة بالعديد من النشاطات الثقافية والفنية، غير أن المهرجان الأقرب إلى روح المكان وطبيعته هو «أيام الشارقة التراثية» التي تحولت إلى تقليد سنوي يقام في نيسان (أبريل)، ليستحضر عبق الماضي وتراث الأجداد، ويؤجّج الحنين إلى حِرَف وأزياء وأناشيد وأنماط معيشة كادت تندثر وسط مظاهر الحداثة التي تتكرس بقفزات سريعة في الإمارات. خطوات قليلة تفصل بين صخب مدينة الشارقة والمنطقة التراثية التي تشهد نشاطات «الأيام»، والممتدة على مساحة واسعة. وما إن يجد الزائر نفسه في هذه المنطقة التي تسمى «قلب الشارقة» حتى يتغير إيقاع الحياة، وتتبدل الملامح. في هذا الفضاء التراثي سيكون الزائر على موعد مع نشاطات متنوعة، وهو يستكشف الماضي بكل حواسه وجوارحه، ووفق برامج وضعها المنظمون بعناية، لا سيما أن المناسبة تتزامن هذه السنة، مع احتفالية الشارقة عاصمة للثقافة الإسلامية. الأمر الذي انعكس على طبيعة التنظيم بدءاً من شعار هذه الدورة «التراث الإسلامي... خيمة واحدة»، مروراً بكل تفصيل آخر، وصولاً إلى البرنامج الفكري الموازي الذي تمحور حول «الحضارة الإسلامية والتاريخ الإسلامي ودورهما في رفد التراث الشعبي»، وليس انتهاء بندوة الشباب والتراث التي حملت عنوان «عرائش الذاكرة»، إذ اتاحت الإبحار في ذاكرة الرواة والحكواتيين ممن توارثوا قصصاً لم تدوّن في كتاب قط، لكنها استقرت في ردهات الذاكرة. ها هي بساطة الأيام الآفلة تعود بأكثر من لون ونكهة، فهنا ستجد فرقة تلبس زيّاً فولكلورياً وهي تؤدي رقصات وحركات ذات جماليات خاصة، وهناك ستعثر على مجموعة تحضّر مأكولات شعبية تبدو غريبة لمن اعتاد «الوجبات السريعة»، وهنالك سترى شيخاً طاعناً في السن وهو يحنو على آلته القديمة ليصنع أدوات للصيد أو سلالاً او خيماً أو سجاجيد. وستلمح، كذلك، مجموعة من النسوة اللواتي يلبسن زياًّ فولكلورياً وهنّ منهمكات في ترتيب موسيقى الحياة كأن يجـــهزن عـــروساً أو يحضرن لوليمة أو يساعـــدن الرجل في الحقل والرعي وتأمين القوت اليومي... أنى التفتّ ستعانق عينيك مفردات وعناصر تحمل معـــاني الزمن الجميل في البيئات المختلفة البحرية والجبلية والصحراوية، وفي كل بيئة ستقرأ سطوراً جديدة لتشكل في مجموعها أرشيفاً غنياً عن بشر عاشوا بعفوية وسط مشقّات لا تحصى. بيد أن قيم المروءة والإيثار كانت كفيلة بتحويل المصاعب إلى لحظات صفاء وأنس تحت ظلال النخيل التي ترمز إلى القلوب الخضراء. ولئن أخذت دولة الإمارت، ودول الخليج بعامة، النصيب الأكبر في عرض تراثها السخي، فإن ذلك لا يلغي حضور ثقافات أخرى قريبة وبعيدة، وهكذا سنجد معروضات وحرفاً ومهارات من قرغيزستان، كازاخستان، ماليزيا، أندونيسيا، تركمانستان، أذربيجان، داغستان، الهند، تركيا، المغرب، الجزائر، تونس، فلسطين، السودان... وسواها من الدول التي تتباهى في عرض كنوز الأسلاف سواء من خلال الرقصات أو المأكولات أو الحرف اليدوية المختلفة. وهو ما عبر عنه الطاهي التركي الذي كان يصنع «البقلاوة» التركية بزيّه التقلدي، قائلاً إنه :«آت من الزمن العثماني البعيد». بينما انهمك الضيف التونسي في تحضير طبق شعبي يسمى «الزرير»، وهو يقدم للمرأة التي تمر بمرحلة النفاس كي تستعيد عافيتها بعد أشهر الحمل المضنية، في حين انهمك الرجل الباكستاني بوضع نقوش زاهية على جلد الجمال ملمحاً الى التراث الآسيوي الثري. أما الجزائري، فكان يستعيد ملاحم الأمازيغ عبر رسوم صنعت باتقان على السجاد. وقد أدّت فرقة شعبية مصرية رقصات على الطريقة الصوفية في طقس أعاد إلى الأذهان فيلم «ألوان السما السبعة» التي تروي حكاية حب نادرة بين فتاة ليل وراقص في أحد الفرق الصوفية. لا يمكن اختزال هذا الكرنفال التراثي الذي يمتد نحو عشرين يوماً (من 6 الى 25 نيسان) في مقالة واحدة. فقد غدت المناسبة «مدرسة للتراث تسرد حكايات الماضي»، وفق تعبير عبدالعزيز المسلم مدير إدارة التراث، معتبراً أن هذا «الاحتفاء الاستثنائي ليس جديداً على الشارقة التي نهلت من التراث وجسّدته في مبانيها ومساجدها ومراكزها الثقافية»، فالاهتمام بالتراث المادي وغير المادي يمثل أولوية لدى القائمين على الشأن الثقافي، ولعل هذا الحرص يتجلى في كل احتفالية، لكنه يبلغ ذروته مع أيام الشارقة التراثية التي تشرّع نوافذ الحنين نحو كنوز الأجداد وعراقة الماضي بكل تفاصيله. منوعاتالشارقة