على مدار 96 عاماً من عمر الجمهورية، مرت تركيا بثلاث مراحل مفصلية على صعيد النظام السياسي، الأولى طغت عليها العسكرة، والثانية بدأت مع وصول حزب العدالة والتنمية سدة الحكم، وفيها بدأت سطوة الجيش تتراجع لصالح السلطة المدنية، والثالثة يمكن التأريخ لإرهاصاتها بمحاولة الانقلاب الفاشلة منتصف يوليو الماضي، حيث التوجّه لتعديلات دستورية تحوّل النظام إلى رئاسي. في 16 من الشهر الجاري يذهب الأتراك إلى صناديق الاستفتاء لقول «نعم» أم «لا» للتعديلات المقترحة على دستور البلاد، وهي تعديلات يسعى حزب العدالة والتنمية الحاكم من خلالها للتحوّل من النظام البرلماني إلى الرئاسي، وبالتالي توسيع صلاحيات أردوغان الذي أعلن أنه بدأ من الآن الاستعداد للترشح لانتخابات 2019 الرئاسية، لولاية رابعة عملياً، علماً أن التعديلات الدستورية تمنحه الفرصة للبقاء في كرسي الرئاسة حتى 2025. 18 مادة حزمة التعديلات المقترحة تتلخّص في 18 مادة، معظمها تختص بصلاحيات الرئيس ومجلس الأمن القومي والمجلس الأعلى للقضاة والمدعــــين العامين، وكذلك المجلس الوطني التركي الكبير، إضافة إلى إغلاق محكمة الاستئناف العسكرية والمحاكم الإدارية العسكرية العليا. من المؤكّد أن محاولة الانقلاب الفاشلة أضفت طابعاً خاصاً على الاستفتاء الوشيك، وهي تتدخّل على نحو فاعل في صياغة الرأي العام التركي، على الأرجح لصالح الـ «نعم» لكن هل المحاولة الانقلابية كانت مدبّرة ومخططاً لها مسبقاً، كما قال رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال قليجدار أوغلو؟. ربما يجيب التاريخ عن هذا السؤال، لكن مما لا شك فيه أن محاولة الانقلاب أسهمت في تنامي الشعور الشعبي بالخطر الدائم وزعزعة ثقة الشعب في النظام البرلماني، كما إن حزب الحركة القومية التركي شعر بخطر وجودي ممن يقف وراء المحاولة، حيث إن عداءه تاريخي مع ما يعرف بالنظام الموازي (جماعة الداعية فتح الله غولن). وكانت نتيجة الشعور بهذا الخطر أن اندفع هذا الحزب للتقارب مع الحزب الحاكم. رجحان الكفّة حتى الآن، وحسب استطلاعات الرأي، تميل الكفة لمصلحة التعديلات الدستورية «نعم»، وبنسبة متفاوتة تراوح بين 3 و6 في المئة. وإذا كان للنشاط الملموس والدعائي بـ «إيجابيات النظام الرئاسي وعائداته»، دور مهم في تشكيل الرأي العام التركي، إلا أن ثمة عوامل كثيرة، تضاف للانقلاب، ساهمت في خدمة الـ «النعم»، منها العمليات الإرهابية في أكثر منطقة ومنها مناطق حسّاسة مثل مطار إسطنبول، الأمر الذي عزز وجهة النظر القائلة إن تركيا بحاجة إلى «الرئيس القوي». قبل أسابيع من إجراء الاستفتاء، وعلى إيقاعه، تصاعد التوتّر بين أنقرة وعواصم أوروبية، وتحديداً ألمانياً وبعدها هولندا. فهل هذا التوتّر سببه الاستفتاء، أم أنه يخدم، أو أريد له أن يخدم الاستفتاء؟ لا شك أنه سيخدم الاستفتاء، سواء أريد له ذلك أو ظهر بالصدفة الزمانية قبل الاستفتاء بأسابيع. ففي غمرة الاشتباك الإعلامي مع هولندا التي منعت وزيرين تركيين من دخول أراضيها للمشاركة في فعاليات استفتائية، خاطب أردوغان الأتراك: «ردّوا عليهم بنعم». بعض معارضيه ومراقبون رأوا في هذه الدعوة ما هو أبعد من توظيف ظرف ناشئ، ذلك أن طبيعة الخلاف مع دول أوروبية لم يكن، بنظر هؤلاء، مبرراً كافياً لإطلاق أوصاف مثل النازية والفاشية، من شأنها إثارة حساسية بالغة في دول تشهد هي أيضاً انتخابات تعود فيها تيارات متشددة لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية إلى الحياة السياسية. من المرجّح أن أردوغان سينجح في تمرير التعديلات الدستورية، ومن شبه المؤكد أن يفوز بالانتخابات إذا جرت الآن، لكن ما الذي سيحصل حتى عام 2019، وهل انعدمت تماماً فرضية جمر الانقلابات تحت رماد تركيا، فهذا كلّه برسم السنوات المقبلة. إضاءة كانت هناك 65 حكومة على مدى 96 عامًا من تاريخ تركيا حيث انهارت الائتلافات وتدخل الجيش مرارًا وتكراراً. وقد وضع الدستور الحالي في عام 1982 عندما كان البلد تحت سيطرة مجلس عصبة قام بانقلاب قبل عامين. وحاول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أولاً إصلاح الدستور عام 2007، بمساعدة مجموعة واسعة من الخبراء من خارج الحزب.