×
محافظة المنطقة الشرقية

استقالة حاكمة البنك المركزي الاوكراني

صورة الخبر

محمد الأسعد شهد النصف الأول من القرن العشرين علائم تحولات ألمّت بالشعرية العربية، وكانت هذه جزءاً من وميض متواصل منذ القرن التاسع عشر. أكثر الأسماء والصيغ التي اتخذتها هذه التحولات حتى أواخر أربعينيات القرن العشرين شهرة كانت النثر الفني، فالشعر المنثور، فالشعر المنسرح، فالشعر المرسل، فالمنطلق، فالحر، وصولاً إلى «قصيدة النثر» مع مطلع الخمسينيات وما بعدها. ومع أن شبهة النثر رافقت كل التسميات السابقة، بما فيها الشعر الحر (شعر التفعيلة الخليلية)، ومع أن قصائد نثر فعلية نُشرت في عدد من البلدان العربية، وفي المهجر على وجه الخصوص، إلا أن مصطلح «قصيدة النثر» لم يبدأ تداوله إلا بعد أن التقطه شاعران عربيان هما أدونيس وأنسي الحاج (1937- 2014) من كتاب الناقدة الفرنسية سوزان برنار (1932-2007) «قصيدة النثر من بودلير إلى الوقت الحاضر» في العام 1959.لخص أدونيس فكرة هذه القصيدة وشروطها في مقالة نشرها في مجلة «شعر» تحت عنوان «في قصيدة النثر» شتاء العام 1960، وفعل أنسي الحاج الأمر نفسه، فلخص فكرة برنار في مقدمة مجموعة له حملت عنوان «لن» وتبناها بتمامها بقدر ما أدرك منها. وكان التقاط هذا المصطلح استمراراً لتلقط ما سبق من مصطلحات مصدرها الثقافة الغربية، وليس دراسة النص العربي والخروج بنظرية، أو شبه نظرية منه، أو بتسمية أو مصطلح على الأقل. وفي هذا الإطار كانت تدور معارك الشعرية العربية بين أنصار هذه التسمية أوتلك، طيلة قرن تقريباً، لتتجمع في النهاية تحت ما يمكن تسميته معركة بين المنظوم والمنثور. ما لفت نظرنا في هذه الأيام إلى إعادة قراءة صفحة من صفحات هذا التاريخ، تلك المفارقة البارزة وهي صراع ونزاع المفاهيم في ساحة المجددين، وتركزها في كتابين شاهدين حملا العنوان ذاته، كتاب أحمد زكي أبو شادي، «قضايا الشعر المعاصر» (1956) وكتاب نازك الملائكة «قضايا الشعر المعاصر» أيضاً (1962). ربما كان تماثل عنواني الكتابين مصادفة، إلا أن الموقف الذي حمله كتاب نازك من قصيدة النثر بالذات، واعتبارها «بدعة غريبة»، على الضد من موقف أبو شادي في كتابه الذي دافع فيه عن هذه القصيدة بحماسة، يشير إلى أن ما كان يحدث سجال يتجاهل فيه طرف الطرفَ الذي يساجله، وهي عادة من عادات الثقافة العربية في عصر انحطاطها المعاصر، حين «يأنف» الخصمُ وهو يردُّ على خصمه من مجرد ذكر اسمه، فيكني عنه بكلمة «بعضهم»، أو «أحدهم». ويشعر بأنه أدى ما عليه.. وانتصر على خصمه. هذا الذي أُريد له أن يكون سجالاً بين منظومٍ ومنثورٍ كان في الحقيقية سجالاً أعمقَ من ذلك بكثير، كان سجالاً بين رؤيتين إلى العالم مختلفتين اختلافاً جذرياً؛ وأفضل ما يلخص هذا ما ورد في الصفحة الأولى من صفحات أطروحة الشاعر د. كمال خير بك (1935- 1980) الجامعية المنشورة تحت عنوان «حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر» (1972). جاء في معرض تعليله لاتخاذ حركة الحداثة موضوعاً لأطروحته: «أولاً، ثمة علاقة عضوية مؤكدة بين ولادة الشعر العربي الحديث وتطوره وتوجهاته، وبين مجموع الظروف التي حاولت اليقظة العربية أن تتجسد فيها، وثانياً، هذا الشعر لا يشكل ردة فعل سالبة، أو موجبة في آن معاً، على هذه الظروف، وإنما يشكل مع ذلك انعطافة حاسمة في تاريخ شعرنا تبدو مرتبطة بتحول عميق في الاختيار الفكري والروحي والإبداعي لقسم كبير من النخبة الثقافية العربية». ويمكن أن نسمع في هذا الكشف صدى لما كان يجول في تفكير قلة قليلة من المجدّدين العرب في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين، كانت تجد ترابطاً بين جوانب نزعات التجدد في الحياة العربية، أياً كان هذا التجدد، شعرياً، أو اجتماعياً، أو سياسياً، أو فكرياً، بل ومضى بعضهم مثل يوسف الخال (1916- 1987) إلى القول إن «أزمة الحياة العربية إجمالاً هي أزمة لغة كما هي أزمة عقل، ومهما طال الوقوف في وجه الحياة فلا بد عاجلاً أو آجلاً، من الانصياع إلى نواميسها، وإلى أن يتم ذلك يظل الأدب العربي الحديث أدباً مصطنعاً، محدوداً لا يتجاوب مع نفس القارئ ولا يعكس حياته». وعبر الشاعر محمود البريكان (1931- 2002) عن موقف مشابه حين أكد في مقالة نشرتها الآداب البيروتية بلا توقيع الشاعر «إن حياةً تفتقر إلى النضال، وإلى تدمير البنى البالية، لا يمكن أن تنتج شيئاً خلاقاً» (إبريل 1954). وفي هذا السياق نفسه، لم يبتعد أحمد زكي أبو شادي عن الدعوة إلى رؤية شاملة محورها الحرية وإنسانية الشاعر، وانفتاحه على شتى التيارات والأنواع. يقول في حديثه عن مجلة «أبولو» التي أنشأها (1932- 1934): «جندتْ مواهب ممتازة متباينة.. وخلقت انسجاماً.. فجمعت بين شعراء موهوبين مبدعين آمنوا بالرمزية، والسريالية، والرومانسية، والواقعية، وغيرها، وغيرها على درجات شتى، والعبرة في أن صفوة إبداعهم كانت موضع الحفاوة والانتفاع بها لخير الأدب عامة، بدل اقتصار الانتفاع على مذهب بعينه. القاسم المشترك الأعظم بين هذه المذاهب هو روح الشعر ذاته، الشعر الأصيل الرفيع، بغض النظر عن صورة التعبير، وعن الموضوعات التي يتناولها».وعلى الضد من هذه المواقف الأكثر تعبيراً عن حقيقة مرمى حركة التجديد، أو «الحداثة»، كما أصبحت تسمى بعد عقدين من الزمن مرا على ظهور أسماء أعمال بارزة مثل «ثلاثون قصيدة» لتوفيق صايغ (1923- 1971)، و«لن» لأنسي الحاج، و«حزن في ضوء القمر» لمحمد الماغوط «(1934- 2006)، حاولت مجموعة من الشعراء والنقاد، من منطلق رؤية مختلفة، كبح هذه الحركة التجديدية وتحجيمها في نطاق ما أطلق عليه أبو شادي «القلقلة الوهمية للقوافي والرضوخ لأحكام الخليل»، والتسامح مع الشعر الجديد الذي اكتفى بكونه أسلوباً في ترتيب التفاعيل، لا تثوير الحياة. أبرز هؤلاء كانت نازك الملائكة في كتابها الذي أشرنا إليه في بداية هذه المقالة، ومحوره تشديدها، بعد أن نفت قصيدة النثر من عالم الشعر، على أن «الشعر الحر ظاهرة عروضية قبل كل شيء»، ذلك لأنه يتناول حسب رؤيتها وإدراكها «الشكل الموسيقي للقصيدة، ويتعلق بعدد التفعيلات في الشطر، ويعنى بترتيب الأشطر والقوافي، وأسلوب استعمال التدوير والزحاف والوتد وغير ذلك مما هو قضايا عروضية بحتة». وأخذت على النقاد العرب أنهم اعتنوا، في دراستهم للشعر الحر، بموضوعاته ومعانيه وصوره «فكان الناقد منهم يكتب فصولاً طويلة عن عشرات القصائد الحرة من دون أن يشير ولو بسطر إلى الناحية العروضية منها». ولم تكتف نازك باختزال كل الأشكال الشعرية في ما سمته «الشعر الحر» الذي هو بتعبيرها شعرٌ «لأنه موزون يخضع لعروض الخليل، ويجري على ثمانية من أوزانه، وهو حرٌ لأنه ينوع عدد تفعيلات الحشو في الشطر»، بل جزمت بوجوب اختزال مهمة الناقد. تقول «ما دام الشعر الحر في أساسه، دعوة إلى تطوير الشكل، وما دام يتناول الأوزان والتشكيلات والقوافي، فليس في إمكاننا أن ننقده إلا على أساس موضوعي من علم العروض». وبعد كل هذه السنوات نجد أن هذا التحديد لحركة التجديد الشعري العربية، بكل تنوعها وأساليبها الجمالية والفكرية، في تغيير عروضي مشروط بما تريده الشاعرة نازك، ويتفق مع ما وصل إليه وعيها، أشبه بفكاهة عابرة، إلا أننا نجد معها الحق كل الحق في مأخذها على نقاد الشعر العرب الذين أهملت أغلبيتهم بالفعل مسألة «العروض» سواء أكان يعني الأوزان، أم الإيقاع الحر، أم، وهو الأكثر أهمية، دقائق اللغة التعبيرية التي اعتنى بها علم البلاغة. وحتى اليوم ما زلنا نصادف احتفاءً بجانب واحد من جوانب الشعرية؛ المعنى، أو الصورة أحياناً، والالتفات إلى أهمية القول وليس إلى كيفية القول، وأخذ كلا الأمرين معاً، ومعهما ربما أمور أخرى هو الموقف السليم، وليس موقف إما هذا أو ذاك الذي يحكم حياتنا العربية ويشلها.