إعداد: عبير حسين تتهادى لنا ذاكرة اليوم من وسط الأبيات الشعرية التي شكلت رمزاً للحداثة في القرن التاسع عشر، وفيها يصف صاحبها نفسه قائلاً: «أنا غرفة انتظار عتيقة بالورود الذابلة، يملؤها خليط عجيب من أزياء فات زمانها، ولا تتنفّس فيها إلا الرسوم الشاحبة» هكذا عبر عن نفسه الشاعر الفرنسي شارل بودلير الذي يحتفي العالم بذكرى ميلاده في مثل هذا اليوم من العام 1821. كتب القدر أولى المحطات المهمة في شخصية بودلير ولا يزال طفلاً لم يتجاوز السادسة من عمره برحيل والده الذي كان أحد كبار موظفي الخدمة المدنية، وكان يكبر والدته ب 34 عاماً، التي تزوجت بعد رحيل الوالد وانشغلت بزواجها الجديد عن رعاية ابنها ما كان له أكبر الأثر في حياته الشخصية بعد ذلك، وتسبب له في كثير من الصدمات النفسية فانعكس كل ذلك على الطريقة التي كتب بها الشعر، فجعلت منه الشاعر الذي يغوص في أعماق عقله الباطن ويدخل لا وعيه وينقل من أحاسيسه صوراً لا يجسدها كما هي حقيقة، وإنما يرسمها رموزاً وإيحاءات يثيرها دون أن يسميها، جاعلاً من الغموض جوهر قصائده.اعتبر بودلير أن الغموض هو جوهر الشعر وأساسه، واضعاً بذلك حجر الأساس لمذهب جديد في الأدب الفرنسي هو المذهب الرمزي، كما كان من مؤسسي مذهب الحداثة في الأدب الذي ساد منذ منتصف القرن 19 في الأدب الفرنسي والذي اتصف بالتمرد على الواقع وتغيير الموروث بكل أشكاله. أظهر شعر بودلير رفضاً لتفوّق قوى الطبيعة والخير المطلق الذي كانت تدور في فلكه حقبة المذهب الرومانسي للشعر طوال القرن 18، ودفعه ذلك إلى التعمق في قراءة أعمال الشاعر الأمريكي «إدغار آلان بو» التي وجد فيها حكايات وقصائد تشبه ما كان يفكر فيه سواء من حيث أحاسيسهما تجاه قوى الطبيعة والموت وتأثير كليهما على العقل، أو من حيث صراعهما المتشابه مع الحزن والفقر والمرض، ونظرتهما تجاه الخطيئة الأصلية والخير الطبيعي لدى البشر، ورفض كل منهما للأرستقراطية. لذلك رغب بودلير في أن يكون «النظير الفرنسي لبو»، فترجم معظم أعماله إلى الفرنسية ما أعطاها شهرة كبيرة في أوروبا، إذ تميزت ترجمات بودلير بأنها كانت أفضل ما ترجم من أشعار إدغار آلان بو، لأنه فهم أفكاره وشخصيته كما فهم قصائده.أصدر بودلير ديوان «أزهار الشر» عام 1857، وهو الديوان الذي وضعه على ضفتين، ضفة الشهرة كشاعر تفوّق برموزه وتجديده، وضفة المحاكمة وإثارة الجدل بين النقاد، وكان قد نشر عدة قصائد من «أزهار الشر» عام 1855 في صحيفة (دوكس موند) الفرنسية، لكن ديوانه لم يشتهر بل وأصبح من أشهر مجموعاته الشعرية، إلا بعد عام 1857،عندما أثار جدلاً بين النقاد وعلى إثره تعرض للمحاكمة والغرامة بتهمة الإخلال بالآداب العامة، واستخدامه كلمات ورموز جديدة على الشعر الفرنسي. جمع بودلير في ديوان (أزهار الشر) بين ضجره وكبريائه ووضوحه، وكان من أهم قصائده «القطرس» التي يشبه فيها نفسه بطائر القطرس. يصف بودلير الطائر الذي يحلّق عالياً بأنه ينظر بقوة إلى الناس ويرتاد العواصف ويقهر الرماة، لكنه عندما يهبط إلى أرض السفينة يدخل المنفى وعالم الفوضى، فيفقد قيمته ويصبح مدعاة للسخرية والتسلية، وبهذه القصيدة تتجسد رمزية بودلير، إذ يسقط ما لاقاه من ظلم في مجتمعه، وعدم تفهم الناس لحقيقة ما يكتب،على ما يعانيه طائر القطرس عندما يصبح على أرض السفينة بين البحارة.