عام 1996 أعاد الكونجرس الأمريكي عبر قانون لتنظيم أسواق الاتصالات تأسيس تلك الصناعة على المنافسة عوضًا عن الطبيعة الاحتكارية. القانون شمل مختلف وسائط الاتصال السلكية، واللاسلكية، والفضائية، والبث الإذاعي، والمعدات.. الأمر الذي دفع الاتصالات والإعلام والمعلوماتية إلى نمو غير مسبوق من نهاية ثمانينيات القرن الماضي حتى الآن، وبقوة دفع إضافية استثنائية، تمثلت في الاندماجات والاستحواذات. لكن الكثير من ذاك النمو لشركات الاتصالات تراجع اليوم مع انطلاق التطبيقات المنافسة والتقنيات الجديدة التي تجاوزت عقبات تقنيات وبنية الاتصالات التحتية، وتجاوزت الجغرافية الوطنية أو الإقليمية؛ وبالتالي شهدنا انخفاض أرباح شركات الاتصالات العالمية، واتجاهها نحو استثمارات معلوماتية وتقنية مختلفة وفعّالة، تسمح لها بالبقاء وسط تراجع دخلها من الخدمات التقليدية. في منطقتنا اليوم فإن ربحية أول 5 شركات انخفضت 10 %. مع انخفاض متوسط العائد لكل مشترك ARPU لدى جميع الشركات. في العالم العربي تبدو مستويات التخلف عن الاتجاهات العالمية حقيقة ثابتة؛ فالعطاء والتقدم مفقودان، وهو أمر ينطبق - للأسف - على كل المجالات مع اختلاف النِّسَب المتقاربة فقط! لكن دعونا نتفق أولاً، وقبل كل شيء، على أن الاتصالات وتقنيات المعلومات والشبكات والتطبيقات لم تتطور بهذا الشكل المذهل، وتتكاثر بهذه الأعداد المتزايدة، لولا قوة الدفع الاقتصادي والأرباح الكبيرة التي تتحصل عليها؛ وهو ما يجعل الحكومات تطبق سيطرتها على هذا القطاع بأساليب مباشرة أو غير مباشرة. المشكلة ليست هنا أبدًا، المشكل في تقارب شركات الاتصالات العربية من دور الحكومة، وأقصد «الجباية المالية»؛ إذ سحب أموال من المستخدم النهائي، ومبالغة في أسعار لحماية دخلها التقليدي.. وهنا من المكالمات الهاتفية الصوتية وباقات الإنترنت الماكرة. هنا يكمن غباء شركات الاتصالات العربية في فكرها التقليدي الذي يعجز عن النظر للمستقبل، مثل قطاعات كثيرة أخرى - للأسف - من التعليم للصحة والإعلام في منطقتنا! عالم الاتصالات يتطور، والقادم مع الاستخدام الأمثل لإمكانيات الفور جي 4G، ثم القادم المذهل لجيل الجي فايف 5G، يخبرنا بأن هذه الشركات بأسلوبها التقليدي في تحقيق الأرباح سوف تتلاشى، وتتعرض للإفلاس، حتى وإن اعتبرت بغرورها الحالي أن الخسارة خارج حساباتها بسبب خلل في بعد النظر، الذي لا يسعفهم، أو أن تخمة الأرباح حجبت الإحساس ورؤية ما يتحرك تحت أقدامهم..! نحن نصل اليوم إلى نقطة اللاعودة في شبكات الاتصال والتطبيقات العالمية الاقتصادية الاجتماعية الإعلامية والترفيهية. شركات الجباية البعيدة عن المنافسة والابتكار القيادي والإبداع هي من ستصبح درسًا في غباء إداري لهذا الجيل، وعبرة للجيل التالي عن تخلف القدرات الحالية، والفشل في توقعات المستقبل والتطلع له. الشراكة مع الجيل الجديد والاستثمار في أفكاره الإبداعية هي الخطوة الأولى نحو المستقبل لشركات الاتصالات التقليدية في منطقتنا التي تتحدث اللغة العربية. لكن كل ما يحدث اليوم هو العكس.. هو حرب لكل تطبيق أو مبادرة تهدد ولو جزءًا ضئيلاً من عوائدها التقليدية. المفترض أن تكون حاضنات هذه الشركات واستثماراتها منتشرة في دولها، ليس لأهداف قومية أو أممية أو أي شيء آخر، بل لكونها استثمارًا اقتصاديًّا مضمونًا للمستقبل. شركات الاتصالات لا تفكر بهذه الطريقة أو النظرة الاستثمارية للوضع الراهن وتحدياته، أو للقادم بأهمية تتطابق مع سرعته القصوى التي ستلتهم المتبقي من المداخيل التقليدية من مكالمات وبيانات مكلفة جدًّا. مع الوقت تصبح خيارات شركة الاتصالات محدودة، ومرحليًّا أمامها خياران لا ثالث لهما: إما القفز الآمن الآن، عبر تبني أساليب إدارية وتكتيكية أكثر قربًا للإبداع والمغامرة المحسوبة بروح مستقبلية. أو الانتظار وحسب المتبقي من الأرباح قبل إفلاسها وتلاشيها نهائيًّا..!