< كانت حرب «داحس والغبراء» بين قبيلتي عبس وذيبان دامت أزيد من أربعين عاماً بسبب فرس وحصان، فلا غرو أن تستعيد قبيلتا الحمر والكبابيش العربيتان في ولاية غرب كردفان السودانية هذا الموروث «الناصع»، فتقتتلان بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة وقاذفات (آر بي جي) ويسقط من بينهما قتلى وجرحى، بسبب سرقة جِمال. ولئن كانت الحادثتان تفصل بينهما أكثر من 1400 عام، فذلك لا يغيّر شيئاً في مجرى الأحداث، فالعقل الذي أنتج تلك الحرب العبثية، ما انفكّ يُشعل غيرها، فـ «أعظم النار من مستصغر الشرر». ولا يود علماء السوسيولوجيا النظريون أن يقتنعوا بأنّ الحديث عن دولة عربية مدنية أمر في منتهى الصعوبة ما دامت خلفية هذه الدولة القبيلة أو الطائفة. فالدولة يصنعها الأفراد والمواطنون الأحرار، بعيداً من أوهام النسب، وحماسة القصائد، شجرة العائلة المقدّسة. لكنّ العقل المسكون بالأساطير لا ينتج إلا الحروب، ولا يصدّر إلا الموت. إنه عقل مهجوس بالعبث. العالم الآن ينتج عبر أجهزة الموبايل أفلاماً تحصد جوائز فنية رفيعة، ونحن مشغولون بإنتاج فيديوات لحبّة بطاطا نتوهم أنّ اسم «الله» مكتوب عليها، وفي ظنّنا أننا نقدّس الخالق، ونحشد الدعم للتسبيح بآلائه! وفي الوقت الذي بدأت منظمة «مارس وان» الهولندية اختيار متطوعين للسكن في كوكب المريخ بحلول 2023، نرى رجال دين يشكّكون في أنّ الأرض تدور حول الشمس، بل يكفّرون من يعتقد بذلك، فثمة داعية يفسر الآية القرآنية «والشمس تجري لمستقر لها»: هم يقولون الشمس واقفة والأرض هي التي تجري، وهذا عكس ما جاء به القرآن الكريم. ويحضّ المسلم على وجوب ترك النظريات العلمية الحديثة، وأن «يتّبع القرآن الكريم»! وثمة مَن شكّك بصعود الإنسان إلى القمر، معتبرين الأمر برمته «صناعة هوليوودية»، بالتالي فإنّ نيل أرمسترونغ «لا صعد إلى القمر ولا شافه ولا وطأته قدماه»! هذه الخرافات تصدر عن رجال دين «مرموقين» يوصفون بـ «العلماء» ولهم سلطة واسعة ونفوذ كبير ومؤثر، ولهؤلاء أتباع ومريدون يقدّمون «المعلومة» الدينية على المنجز العلمي، ولو أنّ العلم أثبت شيئاً وصدّقته الحواس كلها، ونفاه الدين، فإنّ سلطة الثبوت تكون للأخير، ما يجعل رجال الدين في عالمنا العربي والإسلامي يصولون ويجولون ويعيدون صياغة الوعي الديني، بما يخدم مصالحهم المرتبطة في أغلب الأحيان بسلطة ذوي الحكم. هذه المؤاخاة بين الدين والسياسة تتيح لذوي السلطان أن يتمسكوا بـعروشهـــم ما شــاء لهم «المقدس» ذلك، ومن مصــــلحة هؤلاء أن يعمّ الجهل، وتسود الخـــرافة، ويتحكم الدهماء بمقاليد تدبير شؤون الوعي الجمعي، وإغراقه بالشعوذة وسفاسف الأمور، وإقالته عن التفكير. العقـــل المستقيل لا ينتج معرفة حقيقية، ولا يكترث بهذا الأمر أساساً. هو يكتفي بالاحتماء بالمقدس، وإعادة إنتاجه، من أجـــل الإجابة عن أسئلة الحياة، مهما كانت معــقدة. إنه عقل مستقيل، مسطّح، تبريري، مجـــوّف، لا يهتمّ بالجدل، وتنقسم في نظره العـــوالم على تعقيداتها، إلى خير وشر، وحــلال وحرام. ولا مكان لأي سجال وسط هذه الأحكام الحادة، النهائية، الجازمة. وما يجعل هذا العقل المستقيل دائمَ «الحضور» هو امتلاؤه بالإجابات، وخلوه من الأسئلة، لأنّ الأخيرة مرهقة ومعذّبة، وتستدعي التفكير والبحث والتنقيب والمساءلة. وتستوجب إعمال أدوات النقد والتحليل والتفكيك والشك، وتقليب الأمور على وجوهها كافة، وهذه مهمة باهظة الثمن، لأنها تستبطن، بدءاً، استعداداً وكفاية وتأهيلاً لمجابهة هذه «التحديات» وإخضاعها لمنطق مفارق لمنطقها، ما يعني إعادة الحيوية لهذا العقل المستقيل وتفعيله وإنعاشه، وهو أمر متعذّر. * كاتب وأكاديمي أردني