عندما نُشرت أطروحة هنتنجتون "صراع الحضارات" في عام 1992م كنت منتسبًا لكلية الدراسات العليا في جامعة ميجيل -بكندا- لتحضير الدكتوراه في العلاقات الدولية، وكان الحوار على أشدّه بين مؤيد ومعارض لبعض ما ورد في تلك الأطروحة بسبب عدم التكافؤ بين الأقطاب التي بنيت الأطروحة عليها، ومفادها أن الصراع القادم هو (بين الإسلام والحضارات الأخرى). وعندما استضافت الجامعة البروفسور هنتنجتون ليتحدث عن أطروحته -صراع الحضارات المرتقب- تداخلتُ وقلت: نعم هناك صراع، ولكن ليس كما تريدون، ولكنكم تُسوّقون له بالشيء ونقيضه كما هي عادة الميكافيليين "أنصار الغاية تبرر الوسيلة". كان رأيي في تلك المناسبة محل استغراب من أغلب الحضور "أساتذة وطلاب" والتزم السيد هنتنجتون الصمت، فلم يكن يتوقع أن في القاعة طالبا عربيا يضع يده على نقطة جوهرية في الأطروحة، ويقولها علنًا في جامعة ميجيل الشهيرة بتطرفها وانحيازها للجانب الصهيوني وسياسة الغرب بصفة خاصة. والأستاذ المشرف على أطروحتي أصيب بخيبة أمل لأنه كان معارضا للأطروحة "صراع الحضارات"، وهنا يأتي أحد طلابه من العرب ويقول نعم سيكون هناك صراع بطريقته الخاصة. وبعد سنة تقريبًا من استضافة هنتنجتون، استضافت الجامعة ادوارد سعيد -ليتحدث عن الموضوع نفسه تحت عنوان "صراع الفاض" وليس صراع حضارات. وادوارد سعيد -رحمه الله- قامة شامخة في مجال الأدب والنقد والسياسة، ويعرف ماذا يقول، ولذلك اختار العنوان ليؤكد أن الصراع بدأ منذ زمن طويل عندما كانت بريطانيا تستعمر الهند، وعندما قسّم ونستون تشرشل فوق رمال العرب العالم العربي إلى دويلات، وتحقق مخطط سايكس بيكو الشهير. ومما قاله ادوارد سعيد أيضا في تلك الليلة التي احتشد فيها جمع غفير من أساتذة وطلاب ومثقفي مدينة مونتريال -لم تسعهم قاعات جامعة ميجيل الشهيرة وجهز الملعب بشاشات ومكبرات الصوت- ليستمعوا للأستاذ العملاق وهو يقول: "إن هنتنجتون وأمثاله من المنظّرين في الغرب يوهمون بأن ما يزيد على بليون مسلم في العالم يجتمعون ويقرأون القرآن والحديث، ويتفقون وينفذون -أتمنى لو كان الأمر كذلك- ولكن الواقع مُخيِّب للآمال.. وأضاف: وأنا أقول لكم بأن الخطة أعمق بكثير، ولكن ما يحصل في الوقت الراهن مجرد صراع الفاض.. ولكن الصراع الحقيقيي قادم".. هذا ما قاله ادوارد سعيد في عام 1997م قبل ظهور بن لادن وقبل القاعدة. والآن بعد أكثر من عقدين من الزمن -من صدور أطروحة صراع الحضارات- وبعد ما حصل من تغيُّرات في العالم نجد أن هناك صراعا فعلا داخل العالم الإسلامي بدعوى الإسلام نفسه، وعلى المنطقة العربية تحديدًا.. من سينتصر، ومن سينهزم.. ومن سيقود المسيرة القادمة قولًا وعملًا؟ كما أن هناك صراعا بين الداخل والخارج كما ذهب إليه. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل ما يحصل على الساحة مجرد إرهاصات ستصل بالجميع إلى منتهى آمن وأكثر عقلانية، أم أن مسلسل الدمار سيستمر، وتجار الحروب والظلاميون سينتصرون بعد أن يُحطِّموا المعبد على رؤوس المصلين؟! من غير المعقول نكران وجود التدافع بين الحضارات منذ الأزل وإلا كان ربنا -سبحانه وتعالى- اكتفى بديانة واحدة لكل البشر. وذلك التدافع يأتي في عدة أشكال من أجل الأصلح، ولله في أمره ما يشاء. وأطروحة هنتنجتون "الماكرة: صراع الحضارات" تنبأت بما هو حاصل اليوم على الساحة العربية، وحذرت الغرب للتهيؤ له لجني ثماره، وهذا ما نراه على أرض الواقع اليوم. إن ما يحصل اليوم من تشويه للأخلاق ومبادئ الإسلام العظيمة على يد كثيرين من أبنائه فيه شيء كثير مما خُطّط له منذ زمن في شكل صراع الحضارات، تُغذِّيه العولمة وثورة المعلومات، اللذين يشكلان معًا صراع حضارات من جانب، وصراعا داخل الحضارة الإسلامية بين سماحة الإسلام وضيق أفق من يسعون لاختطافه من جانب آخر. Salfarha2@gmaqil.com Salfarha2@gmail.com للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS تبدأ بالرمز (23) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى 88591 - Stc 635031 - Mobily 737221 - Zain