في كل الأحداث الصغيرة والكبيرة بمصر، يمنحنا الإعلام المصري بجميع أطيافه دليلاً على أن المهنة اختفت من البلد، وما يجري هو حواديت أطفال، على كيد نساء، على غسل مخ ساذج. يختار صناع القرار الصحفي وحرّاس البوابات الإعلامية أن يتوجهوا بحديث عاطفي لأطفال سذج، ليخوفوهم من العفاريت وأبو رجل مسلوخة، ويفرحوهم بانتصار الشاطر حسن على أمنا الغولة. وفي زيارة الرئيس السيسي لواشنطن، فشل الإعلام في تغطية ما يجري، ولم يحلل بعمقٍ، كل الظلال السياسية والاقتصادية للحدث الكبير، فقد كان مشغولاً بزفة زارٍ صوفيةٍ تهلل وتؤكد استقبال الرجل في عاصمة العالم استقبال الفاتحين، ليحقق إنجازاً غير مسبوق بمجرد وجوده في البيت الأبيض. الإعلام الذي احتفل بمغادرة الرئيس قاعة القمة العربية في أثناء خطاب أمير قطر، واصل تقديم الحواديت عن بطل لا يُقهر، وفي ذلك إساءة أولاً إلى مقام الرئيس، فهو ليس "فتوة العطوف" في حارات نجيب محفوظ. ليس شجيعاً يجندل أميراً بـ"النبُّوت"، ثم يسير مزهوّاً للقاء رئيس العالم. قبل أيام من وصول السيسي لواشنطن، فاجأت إحدى المذيعات جمهورها بالنتيجة الأساسية التي ستخرج بها الزيارة: السيسي سيلتحق عبر واشنطن بمجلس إدارة العالم. "تفتكروا ما هي الأسماء المطروحة في هذا المجلس؟ أولاً: ترامب الذي انكسرت معه العنجهية الأميركية، وروسيا بوتين.. ثم يأتي الرجل الذي سيشكل مفاجأة لكم، الرئيس السيسي سيكون العضو العربي والمسلم على مائدة مجلس إدارة شؤون العالم المقترحة". بدأت الزيارة، وانهالت "التغطيات" والتحليلات السطحية عن body language الزعيمين، عن رفع أعلام الولايات المختلفة لأول مرة منذ 2009، وكسر بروتوكول افتتاح أكبر دورة للبيسبول هنا في أميركا لأول مرة "من سنوات كبيرة". وصرخ أحد المراسلين من واشنطن بأن "أميركا اهتمت بزيارة السيسي أكثر من زيارة أنجيلا ميركل"، وقدم الدليل الحاسم: إحدى الصحف كتبت من دقائق أن ترامب استقبل السيسي بطريقة أكثر سخونةً ودفئاً من المستشارة. ماذا إذاً عن المباحثات وما دار فيها؟ الفرق كبير بين المعلومات والمدح على طريقة جمع "النقوط" في الأفراح. المعلومات، هي تعريف الاتفاقات بين الجانبين وقيمتها، وما يقصده الجانبان بالحرب على الإرهاب. المعلومات يجب أن تعرفنا بمصير الطلب المصري من أميركا بتصنيف الإخوان جماعة إرهابية، والطلب الأميركي بإخراج المسألة الفلسطينية من الأولويات العربية. المعلومات، هي ما نشرته نيويورك تايمز من أن الكونغرس سيحاول الحدّ من دعم ترامب لمصر، وأن هناك مشروع قرار يحث مصر على تخفيف قمع المعارضة. المعلومات هي ما قاله مسؤولون، نقل عنهم تقرير نيويورك تايمز نفسه، بأن البيت الأبيض لا يمكن أن يلتزم بالحفاظ على حزمة مساعدات مصر على المستويات الحالية. المهندس طارق قابيل وزير التجارة والصناعة، قال من واشنطن: "لا يوجد تأييد سياسي دون تأييد اقتصادي". وأضيف: ولا يوجد تأييد مجاني من دون التزامات متبادلة، مبنيّة على قوة كل طرف، لا على حب الشعب زعيمه. لكن إعلام بلدنا مشغول بمكايدة العوازل، وإثبات أن مصر دولة كبيرة، يشارك رئيسها في حكم العالم. وعلى الخطى نفسها سار "العوازل"، فعجز إعلام المعارضة عن فهم الحفاوة الأميركية بالرئيس السيسي، وركزوا -مثل عجائز الفرح- على "إهانة مصر" في صورة للرئيس مع موظفي ترامب، هي من تقاليد الزيارات الرسمية للبيت الأبيض، ولخّصوا الزيارة في وقفات تندد بسياسات الرئيس، وترفع صور المعتقلين. هذا الإعلام السطحي على الجانبين يضع سمومه في العقول، ويخلط الحقائق بالحواديت بكيد النسا، ويصنع فريقين من المهاويس: فريق مؤيدين هتفوا لزعيم دولة كبيرة على طريقة الترسو: "السيسي عمهم، وحارق دمهم". وفريق معارضين أقصى أمانيهم هي الوصول لأحد مرافقي الرئيس، ومباغتته بصفعة أمام كاميرا الموبايل، ويا لها من معجزة وانتصار تاريخي يشفي به الله قلوب قوم معارضين! ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.