فقد حيل بين الغزالي والمنبر جل ـ إن لم يكن كل ـ فترة حكم مبارك، ولم تكن هذه الحيلولة مانعا له من قول الحق. إلا أن موقفا هاما جمع بين الغزالي ومبارك وجها لوجه، دار فيه حوار غير منشور عن الغزالي ،رحمه الله، وقد آن الأوان ليعرفه القراء، وكل من أساءوا إليه رحمه الله، وقد حكاه لي أستاذنا الدكتور محمد سليم العوا، فقال:تهنئة مبارك بالنجاة كان من الضروري أن يٌهنَّأ الرئيس مبارك بسلامته ونجاته من محاولة اغتيال لم تنجح، واجتمع في يوم التهنئة ومكانها علماء المسلمين وكهنة النصارى، وجاء مندوب من مكتب الرئيس ليطلب من الشيخ الغزالي وشيخين كبيرَيْ المقام الانتظار حتى يأتيهم الرئيس، فانتظروا في غرفة من غرف قصر الرئاسة أُجلسوا فيها، ودخل الرئيس عليهم وكان المكان الخالي على أريكة في ناحية فيها الشيخ الغزالي، وجلس الرئيس في الناحية الأخرى، وبعد مجاملات معتادة قال الرئيس مبارك للشيخ الغزالي، وهو يربت على ركبته: ادع لي يا شيخ غزالي، أنا حملي ثقيل، لازم كل يوم أوكل (أطعم) سبعين مليونا. قال الشيخ الغزالي: لم أشعر بنفسي وهو يقول ذلك، واستعدته الكلام أنت بتقول إيه؟! فكرر عبارته: أنا مطلوب مني كل يوم أوكل (أطعم) سبعين مليونا. يقول الغزالي: فوجدت نفسي أنفجر فيه لأقول له: أنت فاكر نفسك مين؟ إياك أنت فاكر روحك ربُّنا! هو أنت تجدر (تقدر) توكل نفسك؟! يا شيخ اسكت. وأنت لو جت (جاءت) دبانه (ذبابة) على أكلك تأكله ولا تجدر (تقدر) تعمل فيها حاجه. قال لي الشيخ الغزالي: فارتبك الرجل وتغير لون وجهه، وقال لي: أنا قصدي من الكلام المسؤولية التي عليّ. قال الشيخ الغزالي: ولم أكن قد سمعته جيدا فأكملت: مسؤولية إيه؟! المسؤولية على اللي يجدر واحنا كلنا في إيد رَبُّنا. أنت بكتيره بكتيره تدعي وتقول: يا رب ساعدني. لكن تقول أوكلهم، يا أخي وكِّل نفسك. قال الشيخ الغزالي: فوضع الرجل يده على ركبتي مرة أخرى وقال: استنى (انتظر) يا شيخ محمد، استنى أنت يمكن مش فاهمني. فقال له الغزالي: مش مهم أفهمك، المهم أن تفهمني أنت. يا أخي (وفي السماء رزقكم وما توعدون). (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها). (أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون) فسكت الرجل ونظرت إلى وجهه وهو متحير، فأدركت ما فعلت، وأفقت، فنظرت إلى الشيخين لعل أحدهما يعينني، فوجدت أكبرهما سنا قد أسند ذقنه على عصاه، وأغمض عينيه. ووجدت أكبرهما مقاما قد أسند رأسه إلى مقعده وأغمض عينيه تحت نظارته التي نصفها ملون ونصفها الآخر أبيض. وأكمل الرئيس كلامه بما يشبه الاعتذار عما قال، والرضا بما كنت أقوله، وجامل كلا من الشيخين بكلمة، ثم قمنا لنخرج، فأوصلنا إلى باب السيارة فأسرع أحد الشيخين فجلس إلى جوار السائق، ودار الثاني ليركب من الباب خلف السائق، وكنت أنا أبطأهم خطوة، فمشى الرئيس إلى جواري حتى بلغنا باب السيارة، فمددت يدي لأفتحه فإذا بالرئيس يسبقني ليفتحه لي، فحاولت منعه من ذلك، وأمسكت بيده وقلت له: أرجوك يا سيادة الرئيس لا تفعل. فقال: هذا مقامك يا شيخ غزالي... أنا والله أحبك، يا شيخ محمد ادع الله لي.وأغلق مبارك الباب ركبت السيارة وأغلق هو الباب، وبقي واقفا إلى أن تحركت السيارة فأشار إليّ مودعا، وانطلقت السيارة والشيخان صامتان لم يتكلم أي منهما بكلمة حتى أوصلناهما واحدا بعد الآخر، ثم أوصلني السائق إلى بيتي. وفي نفس الليلة ـ أو في صباح ثاني يوم ـ هاتفاني كل منهما على انفراد ليدعو لي ويقول لي: لقد قمت بفرض الكفاية عنا يا شيخ غزالي، ويضحك الشيخ ضحكة طويلة من ضحكاته الطفولية التي يعرفها محبوه، ثم قال لي: اسمع يا محمد (أي: محمد سليم العوا) احفظ هذه الحكاية، ولا تحكها إلا بعد موتي، فإني أرجو أن يكون ما قلته لهذا الرجل في الميزان يوم القيامة، وأن يدعو لي بعض من يعرفونه دعوة تنفعني إذا فارقت الأهل والأحبة. ما مضى ذكره كان مقابلة شخصية مع أستاذنا العوا في إسطنبول بعد انتهاء الجمعية العامة الثانية لاتحاد علماء المسلمين، بتاريخ: 12 يوليو 2006م. وقد نشرت هذه الشهادة في عام 2006م في مصر، وفي عهد مبارك، وفي عز جبروت أمن الدولة وقتها، لكني فوجئت بهذه الشهادة تُنقل منذ أسابيع دون نسبة لمن نشرها، وبعدها فوجئت بموقع (البوابة نيوز) يقول: إن دراويش الشرعية اختلقت موقفا بعد سقوط مبارك تنسب فيه البطولة للغزالي، وهو كلام هراء لا أساس له، فالشهادة صحيحة، وقد نشرتها وقتها منسوبة لمصدرها وهو الدكتور العوا، عن صاحبها مباشرة وهو العلامة الشيخ محمد الغزالي، صاحب المواقف المعروفة مع كل الرؤساء دون خوف أو وجل.