مع تركيز اهتمام العالم على مسألة النفوذ الروسي في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، يتقدَّم الكرملين بهدوء في منطقةٍ أخرى بالغة الأهمية لكلٍ من الولايات المتحدة وأوروبا: بلدان شمال أفريقيا الخمسة الواقعة على الشاطئ الجنوبي للبحر المتوسط. إذ اجتمع مسؤولون روس وجزائريون في حوضٍ لبناء السفن بمدينة سان بطرسبرغ الروسية الشهر الماضي، مارس/آذار، ليُدشنوا الغواصة الأولى من بين غواصتين من طراز الغواصات المُلقَّبة بـ"الثقب الأسود"، والتي صُنعت لسلاح البحرية الجزائري. وفي اليوم نفسه، انتشرت الأنباء بأنَّ روسيا قد نشرت قواتٍ خاصة وطائراتٍ بدون طيَّار في قاعدةٍ تعود للحقبة السوفيتية غربي مصر، وذلك من أجل دعم قائد إحدى الميليشيات في ليبيا المجاورة، وفق مجلة . بأواخر 2016، سافر أمين مجلس الأمن الروسي إلى المغرب، حيث دعا الملك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لرد الزيارة التي قام بها إلى موسكو في وقتٍ سابق من ذلك العام. وفي تونس، قفزت السياحة الروسية إلى 10 أضعاف حجمها عام 2016، ووقَّع الكرملين صفقةً في الخريف الماضي من أجل بناء محطةٍ للطاقة النووية.تطويرٌ ممنهج لعلاقة القاهرة بموسكو وكانت مصر، أكبر بلدان العالم العربي، بمثابة دُرّة تاج الاتحاد السوفييتي في الشرق الأوسط حتى انشقاقها من أجل الانضمام لمعسكر الولايات المتحدة في أواخر السبعينيات، لتكون هي حليف واشنطن الأهم على الإطلاق في شمال أفريقيا منذ ذلك الحين. ومع ذلك، بدأت القاهرة بصورةٍ مُمنهجة تطوير علاقاتها بروسيا بعد فترةٍ قصيرة من إطاحة الجنرال عبد الفتاح السيسي بالرئيس محمد مرسي عام 2013. وبقيت إدارة أوباما، نتيجة تحفُّظها على أساليب القاهرة القاسية للقضاء على المعارضة، على مسافةٍ من السيسي، الذي تحوَّل بعد ذلك إلى روسيا لمساعدته في ملء هذا الفراغ. وفي 2015، سافر بوتين إلى القاهرة، حيث امتلأت جوانب الطرق باللافتات التي تحمل صورته، وردَّ الجميل للسيسي بإهدائه سلاح كلاشينكوف جديد.مصر صوتت إلى جانب روسيا مع بشار وفي أكتوبر/تشرين الأول 2016، صوَّتت مصر إلى جانب روسيا ضد قرارٍ لمجلس الأمن يهدف إلى إنهاء الضربات الجوية في سوريا، وهو التصويت الذي جرى استنكاره في أنحاء العالم العربي باعتباره محاولةً للتودُّد إلى موسكو. وبعد أسابيع، عقدت الدولتان أول تدريبٍ عسكري مشترك لهما، وهو التدريب الذي أطلقا عليه اسم حُماة الصداقة. والآن، يُقال إنَّ القاهرة وموسكو على بُعد أسابيع من وضع اللمسات الأخيرة على اتفاقٍ بشأن إقامة مفاعلٍ نووي خارج الإسكندرية. ومن المُقرَّر أن تبدأ روسيا في تسليم نحو 50 مروحية هجومية من طراز التمساح إلى مصر هذا العام، إضافةً إلى عددٍ مماثل من مقاتلات ميج 29 ثنائية المحرك التي تُصنِّعها شركة ميكويان الروسية عام 2020، وهي الصفقة الأكبر من نوعها منذ التحالف بين البلدين أثناء الحرب الباردة.موسكو وحليفها حفتر وفي ليبيا المجاورة، ترتكز سياسة روسيا على الجنرال خليفة حفتر، الرجل الذي يقود ميليشيا شرقي البلاد، الذي يواجه الحكومة المعترف بها دولياً بطرابلس. وقام حفتر بعدّة زيارات إلى موسكو على مدار العام الماضي للحصول على الدعم العسكري الروسي، وفي يناير/كانون الثاني، قام بخطوةٍ غير معتادة، وصعد على متن حاملة الطائرات الروسية الوحيدة أثناء عودتها من سوريا. وعلى متنها، أفادت التقارير بأنَّه وقَّع اتفاقاً مع المسؤولين الروس للسماح لقواتهم بالعمل في مناطق ليبيا الواقعة تحت سيطرته، كما فعلوا في مارس/آذار، على ما يبدو. ووفقاً للجنرال توماس والدهاوزر، قائد القوات الأميركية في أفريقيا، فإنَّ تواجد القوات الروسية في ليبيا "لا يمكن إنكاره"، وقال: "إنَّهم موجودون على الأرض، ويحاولون تغيير مسار الأمور، ونحن نراقب ما يفعلونه بقلقٍ شديد". وزار فايز السراج، رئيس الوزراء بحكومة الوفاق المنافِسة الموجودة في طرابلس، هو الآخر موسكو الشهر الماضي ليلتقي وزير الخارجية الروسي، لكنَّ الكرملين يلقي بثقله جلياً خلف حفتر، الذي كان جنرالاً بالجيش في ظل حكم الديكتاتور معمر القذافي. وعارض بوتين تدخُّل الناتو بليبيا عام 2011، مُفضِّلاً الاستبداد الذي يمكن التعويل عليه للقذافي عن فراغ السلطة الذي يُشجِّع مجموعات الثوار الذين يرفضهم جميعاً باعتبارهم إرهابيين. ولروسيا أيضاً مصالح اقتصادية في ليبيا. فقد التقى إيغور سيشن، رئيس شركة الطاقة الروسية العملاقة المملوكة للدولة "روسنفت"، والحليف المُقرَّب لبوتين، مع رئيس مؤسسة النفط الليبية في فبراير/شباط، واتّفقا على التعاون لإعادة بناء قطاع الطاقة في البلد الذي مزَّقته الحرب. وتمتلك ليبيا أكبر احتياطات النفط في أفريقيا، وقبل الحرب الأهلية التي بدأت عام 2011، كانت تنتج 1.65 مليون برميل يومياً، كان معظمها يُصدَّر إلى أوروبا. وفي موضوعٍ آخر لا يقل أهمية، تُعَدُ ليبيا نقطةً رئيسية على طول طريق وسط البحر المتوسط الذي يصل المهاجرون عبره إلى أوروبا. ووفقاً للاتحاد الأوروبي، يأتي نحو 90% من المهاجرين إلى أوروبا اليوم عبر ليبيا. وتستطيع روسيا، من خلال روابطها الوثيقة المتنامية مع ليبيا، أن تستخدم الهجرة الجماعية كأداة ضغط على أوروبا. وتُثير تركيا، بوابة اللاجئين الأخرى لأوروبا، إمكانية تدفُّق اللاجئين إلى الاتحاد الأوروبي لانتزاع التنازلات من بروكسل، ويمكن أن تلعب روسيا بورقة ليبيا بالطريقة نفسها.تونس أيضاً لديها ما تقدمه وإلى الغرب من ليبيا، قد يبدو أنَّ لدى تونس القليل لتُقدِّمه لروسيا. لكن بعد توقُّف الرحلات الجوية من روسيا إلى كلٍ من مصر وتركيا في أعقاب إسقاط طائرةٍ روسية مدنية وأخرى عسكرية في هذين البلدين، أصبح ذلك البلد الصغير بديلاً رائجاً للسياحة. وتُعَدُ روسيا الآن هي أكبر مصادر السياح المسافرين إلى تونس، وهو ما يمثل مصدر دخل أساسي لبلدٍ يعتمد على صناعة السياحة، التي لا تزال تعاني جرَّاء الهجمات الإرهابية التي وقعت عام 2015. وبالتأكيد، لا يُوجد أي أمر شائن حيال سفر السياح الروس في تونس، غير أنَّ تدفُّق السياح يُمهِّد الأرض أمام موسكو للتأثير في الاقتصاد. وأصبحت قوائم المطاعم المكتوبة بالأبجدية السلافية شائعة على نحوٍ متزايد في تونس، ويتعلَّم عُمال الفنادق المحلِّيين هناك اللغة الروسية. وذكرت وسائل الإعلام الروسية إنَّ الجانبين بحثا حتى التبادل التجاري المشترك باستخدام الروبل الروسي والدينار التونسي بدلاً من الدولار واليورو. والعام الماضي، وإلى جانب الاتفاق الخاص بالمحطة النووية، تعهَّدت روسيا بإمداد تونس بمروحياتٍ لمحاربة تنظيمي داعش والقاعدة.الجزائر سوق لنمو روسيا كذلك وتُعَد الجزائر المجاورة، وهي مشترٍ قديم للأسلحة الروسية، سوقاً آخر للنمو بالنسبة للكرملين. ففي 2014، وقَّع الجانبان اتفاقاً يُقدَّر بمليار دولار ستستخدم الجزائر بموجبه معداتٍ من شركات توريد الأسلحة التابعة للدولة في موسكو لتصنيع 200 دبابة. ووصف خبيرٌ عسكري روسي الاتفاق بأنَّه "قد يكون عقد التصدير الأكبر في العالم لدبابات المعارك الرئيسية". والعام الماضي، استقبل وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة نظيره الروسي سيرغي لافروف في العاصمة الجزائر، التي بدأت بالفعل في تلقّي طلبيةٍ من 14 طائرة مقاتلة من طراز سوخوي سو-30. وأخيراً، ستستقبل الجزائر سفينتين حربيتين روسيتين من طراز تايغر مُزوَّدة بصواريخ كروز روسية هذا العام. وفي العام المقبل، ستتلقّى غواصتين من طراز الثقب الأسود.المغرب أهم الحلفاء ويُعَد المغرب، أهم حلفاء الولايات المتحدة في شمال أفريقيا بعد مصر، هو آخر الموجودين على قائمة الهجمة الروسية لاجتذاب بلدان شمال أفريقيا. وزار ملك المغرب الرئيس الروسي بوتين العام الماضي، ووقَّع إعلاناً خاصاً بـ"شراكةٍ إستراتيجية عميقة"، واتفاقاتٍ تتعلَّق بمكافحة الإرهاب، والطاقة، إضافةً إلى "التعاون في الإسلام" كما جاء في التعبير الغريب الذي استخدمه الكرملين. ولاحقاً، في ديسمبر/كانون الأول، توجَّه أمين مجلس الأمن الروسي، وحليف بوتين المُقرَّب، ومدير جهاز الأمن الفيدرالي (FSB) سابقاً، في زيارةٍ إلى المملكة المغربية، وهي الزيارة التي وجَّه الملك خلالها دعوةً شخصية لبوتين للقيام بزيارةٍ مماثلة. ويهدف المغرب إلى زيادة السياحة الروسية خلال السنوات المُقبلة، وفي فبراير/شباط، أخبر مستشار مُقرَّب للملك وسائل الإعلام الروسية أنَّ الرباط تسعى إلى تعاونٍ أوثق في أزمة المهاجرين. ولا شيء من هذا يُوحي بأنَّ روسيا تقوم بحيلةٍ جيوسياسية، فمثل واشنطن، ترغب موسكو في أن تمارس نفوذها الدبلوماسي، والاقتصادي، والأمني أينما استطاعت. لكن في ظل أزمة المهاجرين، وتهديد الإرهاب الدولي، والاضطرابات المستمرة الناتجة عن الربيع العربي، يُمثِّل شمال أفريقيا منطقةً ذات أهمية قصوى بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين. وبالنسبة للإدارة الأميركية الجديدة، سيكون على سياسةٍ شاملة إزاء روسيا أن تتصدَّى للكرملين، الذي يستعرض قوته ليس فقط في الولايات المتحدة وأوروبا، ولكن أيضاً، وعلى نحوٍ متزايد، في المنطقة الواقعة على الشاطئ الجنوبي للبحر المتوسط. - هذا الموضوع مترجم عن مجلة Foreign Affairs الأميركية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط .