من الأشياء اللافتة للمهتم بالكتاب هو غياب الكتاب الخاص بالنشء، ولا أدري لماذا تغيب هذه الفئة ولا تستهدف بالتأليف لها، فمن المعروف أن النشء هم أكثر الفئات تأثراً بأي فكرة، وكما لاحظنا أن هذه الفئة العمرية هي أكثر الفئات تأثراً بأفكار المتطرفين! قبل أيام انتهت فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب، وهو تظاهرة ثقافية ينتظرها جميع المثقفين والمهتمين بالكتاب. وحقيقة إن هذا المعرض استطاع أن يجذب إليه جميع فئات المجتمع من أطفال وناشئة وغيرهم. حتى إن مبيعات المعرض تسجل ارتفاعا ملحوظا، وهو مؤشر إلى اتجاه المجتمع عموما نحو الثقافة والفنون. وكنت دائما أحرص على تلمس أغرب ما يمكن أن أجده في هذا المعرض سواء كانت كتب غرائبية، أو كانت آراء حول المعرض نفسه، وقد سألت أحد الناشرين حينما لفت نظري أن مجمل كتبه هي الروايات والسرد، فسألته عن عدد ما يطبع من كل رواية، فأخبرني أن متوسط ما يطبعه هو ألفا نسخة، ثم سألته لماذا لم يطبع دواوين شعرية، فقال لي وبصريح العبارة: إن طباعة الشعر هي عبء وغير مربحة للناشر، وما تشاهده في المعرض من دواوين شعرية فتسعة وتسعون بالمئة منها هي دواوين مسبقة الدفع، وتكفل بطباعتها غالبا أصحابها وذلك لأننا لا نستطيع أن نغامر بطباعة أي ديوان من الشعراء المعاصرين لعدم رواجه. وإذا طبع عندنا فغالبا ما نطبع منه ألف نسخة وذلك لعدم ضمان التوزيع. واشتكى لي أنه يوجد عنده بالمستودعات خزين من الدواوين التي لم يستطع بيعها؛ ولهذا فإن أي ناشر موجود في المعرض لا يمكن أن يغامر بطباعة ديوان على حسابه. ثم قال لي إن الرواية والسرد بشكل عام هو أفضل رواجا من دواوين الشعر بالنسبة للناشرين الباحثين عن المكسب التجاري والأرباح. فالرواية تبيع نفسها بنفسها، أما ديوان الشعر فيعتبر بعرفنا نحن الناشرين بضاعة كاسدة، هذا ما قاله لي أحد الناشرين والواقع يؤيده. ولو تأملنا دواوين الشعر الموجودة على رفوف الناشرين في معرض الكتاب لوجدنا أنها غالبا مدفوعة الثمن، أو أنها نشر شخصي من قبل الشاعر! وفي كلتا الحالتين يمثل ذلك حالة من بؤس الشعر، وأنا أذكر أن (دار العودة) أخذت على عاتقها نشر الشعر، فنشرت الكثير من الأعمال الشعرية المبكرة لنازك الملائكة، والفيتوري، ومحمود درويش، والسياب، وغازي القصيبي، وجمع من الشعراء، وكانت مطبوعاتهم عبارة عن دواوين شعرية عامة، وفي الآخر لم تستطع هذه الدار الاستمرار في نشر الشعر وحده، وغابت (دار العودة) وتلاشت. أما الدواوين الشعرية الخاصة بالشعراء القدامى، فكثير منها أو أكثرها كان يطبع مصورا في (دار صادر) حتى هذه الساعة، وفي بعض الدور والمؤسسات الحكومية. ما أريد قوله إن طباعة الشعر تمر بأزمة ويجب معالجتها من خلال المؤسسات. وأنا أنادي هنا أن تتولى الأندية الأدبية طباعة الشعر ودواوين الشعراء حتى لا يبقى الشعر تحت رحمة سوق الكتاب ومسألة العرض والطلب. فالشعر فن أدبي إنساني يجب المحافظة عليه، ويجب تكتيف الأمسيات الشعرية، كما كانت في حقبة الثمانينيات. لقد كانت القبائل العربية تحتفل لميلاد شاعر وتفتخر بشعرائها، فالشعر منبع اللغة والمكون الأساس لها، وحينما نفقد الشعر فهذا يعني أن اللغة العربية بمجملها في أزمة! المسألة الثانية التي مرت علي في معرض الكتاب هي: هل جميع ما يبتاع من المعرض من كتب تُقرأ؟ وأنا أقول هنا إن مجرد دخول المعرض والتجول بين رفوفه وناشريه يعتبر حالة تعافٍ في الثقافة عندنا. وأنا أعلم أن بعض من يبتاع الكتب والموسوعات يودعها على الرفوف دون أن ينظر فيها، كما أنني أعلم أن هنالك أناساً شغوفين بتملك الكتاب أكثر من قراءته، وكذلك يوجد من يبتاعون الكتاب للمباهاة، فجميع هذه الأشياء موجودة في كل مكان وفي كل زمان؛ ولكنها بالمقابل تمثل حاله ثقافية سائدة وتمثل أن المجتمع عموما أصبح يرى أن من يقرأ الكتاب هو خير ممن لا يقرأ، وأن من يملك الكتاب هو أفضل ممن لا يملكه، أن المكتبة المنزلية أصبحت ركناً اساسياً من مكملات أثاث البيت، وعليه فإن وجود الكتاب حتى ولو لم يُقرأ في أي منزل يعتبر حالة صحية تعبر عن حالة ثقافية، وما نملكه من كتب في هذا اليوم ولم نقرأها سيأتي من أهل دارنا من يقوم بقراءتها. وما لم نفهمه حال قراءتنا لأي كتاب في هذا اليوم فغداً سوف نفهمه. إن صحبة الكتاب التي عبر عنها الأدباء والشعراء قديما تعتبر خطوة حضارية، الكثير من الأمم المتحضرة يسعون إلى تأكيدها وتنميتها. ومن الأشياء اللافتة للمهتم بالكتاب هو غياب الكتاب الخاص بالنشء، ولا أدري لماذا تغيب هذه الفئة ولا تستهدف بالتأليف لها، فمن المعروف أن النشء هم أكثر الفئات تأثرا بأي فكرة، وكما لاحظنا أن هذه الفئة العمرية هي أكثر الفئات تأثرا بأفكار المتطرفين! ولا يوجد لها مؤلفات خاصة بها. وعليه فأنا أرى أنه يجب أن توضع لهذه الفئة العمرية المحصورة بين سن الثانية عشرة إلى سن الثامنة عشرة مسابقات في التأليف لها تكرس فيها ثقافة الخير، والعدل، والجمال، وألا تبقى رهينة لمواقع التواصل الاجتماعي المتطرفة والتي تبث فيها سمومها.. إن هذه الفئة التي تمثل شريحة كبيرة من التعداد يجب أن تعالج معالجة مدروسة ومرتبطة بالخطاب الوسطي المعتدل والتربوي البناء. لقد لوحظ عالميا أن هذه الفئة هي التي تثير الشغف في مدرجات مباريات كرة القدم، وهي التي تتردد كثيرا على أفلام العنف على الانترنت، كما أنها هي التي تقوم غالبا بحوادث القتل العشوائي في الغرب. كما وجد في الغرب أن هذه الفئة تحمل استعداداً أكثر من غيرها بممارسة السلوك الانتحاري، وقد يكون لهذه المقولة شاهد عندنا، وأعني هنا ممارسة التفحيط والسرعة في قيادة السيارة. إن هذه الفئة تحتاج إلى لفتة جادة وصادقة لكيفية التعامل معها على جميع الأصعدة ويجب تنمية روح الجماعة بينهم. كما أن يجب تنمية روح الفرد من خلال الألعاب الرياضية الجماعية والفردية، وإعادة الاعتبار إلى التنافس الشريف بينهم من خلال دوري المدارس والجامعات.