هو السجن الذي كان طريقهم إلى الإبداع، بوابة أغلقت عليهم ففتحت لهم نافذة الكتابة على مصراعيها، وكأنهم كانوا بحاجة إلى عزلة تامة ليكملوا الصورة العقلية الناقصة، فقد فجرت القضبان رغبات الحرية، وسمحت الظلمة أن يرى كل منهم النور عبر عينه. تجربة إنسانية «أدب السجون» كلمة تدل على الكتابة الأدبية عن تجربة إنسانية ونضالية، عرفت النور من وسط عتمة السجن، وحلق في الأعلى عبر نوافذ الزنازين، وخلف القضبان الحديدية كانت ولادته التي أطلقت العنان لكل سجين وأسير ومعتقل أن يعبر عن وجعه اليومي ومعاناته المستمرة والحالة النفسية بالطريقة التي يراها مناسبة. أمله في الانعتاق من هذا القهر، والخروج إلى فضاء أرحب هي المحرك الأساسي لهذا النوع من الكتابة الذي لا يمكن اعتباره حديثاً على الساحة الفلسطينية والعربية وحتى العالمية. يقول الكاتب الدكتور خالد المصري إن هذا الأدب فرض نفسه كظاهرة أدبية، حاضرة بقوة في الأدب الفلسطيني الحديث، ربما أفرزتها خصوصية الوضع الفلسطيني، فقد عرفت على نطاق واسع قبل نكسة حزيران 1967، فكبار الشعراء والكتاب الفلسطينيون أمثال محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وغيرهم تعرضوا للاعتقال قبل ذلك وكتبوا أشعارهم داخل السجون أيضاً. ويضيف المصري: التجربة الكتابية عن عذابات السجن عرفت منذ القدم عربياً وعالمياً أيضاً، فقد برع الكثير من الأدباء في هذا اللون من الكتابة؛ صوروا فيها ظروف الاعتقال والتعذيب وكان من بين أبرز الأسماء التي قرأت لها هو الشاعر المصري الراحل أحمد فؤاد نجم الذي كتب مطولاً قصائد أثناء وجوده في السجن أو بعد خروجه لكنها جميعاً تتحدث عن قسوة الاعتقال وحلم الحرية. ويشير الأسير المحرر حسن دعبس إلى أن السجن تجربة فريدة في حد ذاتها، تشكل وحدها إلهاماً من نوع خاص يفجر طاقات الأسير في الكتابة والتعبير، وهذا ما عاشه شخصياً، حيث وجدت في نفسي رغبة شديدة لتحويل الواقع من حولي إلى شهادات حية عبر توثيقها بقلم وورقة، ويتابع دعبس حديثه قائلاً: ليس هناك ما يمكن اعتباره سلبياً بالمطلق فقد استفدت من تجربة الاعتقال في سجون الاحتلال فقد كانت فرصة لمراجعة الذات والتقرب إلى الله، وكانت مناسبة لأكتشف موهبة لم أكن أتخيل أني امتلكها وهي الكتابة، ويوضح: ربما لا أملك ذلك الحس الذي يعرف به كبار الكتاب والأدباء إلا أن ما أكتبه يشكل قيمة حقيقية بالنسبة لي شخصياً، فأنا أعتبره جزءاً من تاريخي الشخصي، وجانباً هاماً من سيرتي الذاتية التي أفخر بها. وتجربتي الشخصية توضح أن هناك أدباً خاصاً بالسجن يولد من داخله ويتفجر من خلاله، إذ لم أكن ممن يكتبون قبل السجن وحين بدأت الكتابة كانت المفاجأة بإعجاب كل من قرأ وطلبوا مني جميعاً المواصلة في الكتابة حتى تمكنت بفضل الله من كتابة عدة كتب. السجن يفجر الطاقات ويتفق معه في الرأي الأسير المحرر فريد شريم، حيث يؤكد أن السجن يفجر طاقتك الكامنة ويستخرج من نفسك الكثير من المزايا التي لم تكن تعرفها حتى عن نفسك، سلامة لم يكتب شيئاً داخل المعتقل إلا أنه وخلال سنوات اعتقاله التي تجاوزت الخمس عشرة كان فيها قارئاً جيداً لكل ما كتبه زملاؤه، سواء داخل السجن أو بعد الخروج منه. وحول هذا يقول: كنت أقرأ وأشعر باستمتاع شديد حيث كانوا يقولون ما أشعر به دون حتى أن أعرفهم، كانوا يعبرون عن معاناتهم الشخصية وكأنها قصتي الحقيقية، هو ذات الإحساس الذي ينتاب كل الأسرى داخل السجون، فالهم واحد والجميع يتعلق بذات الأمل، ومن يملك ملكة الكتابة يعبر عنها بشكلها الأدبي الراقي. ولأن جو السجن وروتينه بالغ الكآبة فإن خير جليس هناك هو الكتاب، فهو أفضل وسيلة لقتل الوقت في ما هو مفيد تخفيفاً على النفس، والمحظوظون منا هم من كانوا يجدون طريقهم إلى القلم للتعبير عما يجول في أنفسهم وأنفس زملائهم، فهناك المجال مفتوح لحوار دائم والوقت متوافر لذلك، وتبادل الآراء يثري الأفكار والمراجعات تقوم الكتابة والنقد يجعل التجربة قابلة للتطور دائماً. الكاتب والدكتور سليم المدهون يقول: لم نكن مبدعين في هذا ولكننا الأكثر إنتاجاً لهذا النوع من الأدب، فيجدر التنويه أن أدب السجون ليس حكراً على الفلسطينيين والعرب فقط، بل هناك آخرون مثل شاعر تركيا العظيم ناظم حكمت، وشاعر تشيلي العظيم بابلونيرودا، والروائي الروسي ديستوفسكي، فالسجون واحدة وهي موجودة في كل مكان من قديم الأزل، والتعذيب النفسي والبدني الممارس ضد السجناء والأسرى أيضاً موجود في كل الدول حتى المتقدمة منها وإلى أيامنا هذه، هذا كله شكل رافعة لأدب السجون الذي بات معروفاً كلون أدبي خاص ومميز. ويتابع الدكتور المدهون المعتقل السابق حديثه بالقول: طالما حاولت إدارات السجون الإسرائيلية قمع المعتقلين بأشكال مختلفة كان من ضمنها حصاره ثقافياً وتعليمياً، سواء على المستوى الجماعي أو الفردي، غير أن هذا لم يثن عزيمة الأسرى الذين قاموا بقوة هذه الإجراءات لتبقى هذه المعتقلات مفعمة بالحياة الثقافية المناهضة للاحتلال، فقد أسهم الأسرى في مد الأدب الفلسطيني بكل أشكال الإبداع وروافد التميّز. نوع من الصمود ويشير المدهون إلى أن كتابة السجون ليست وسيلة للتعبير عن المعاناة اليومية فقط وإنما هي شكل من أشكال الصمود، اكتسب مع الوقت خصوصية الثورة وعنفوان المقاومة، برقة العشاق وطهارة الانتماء، حاولوا من خلاله إيصال رسالة مفادها إننا باقون هنا ولن نستسلم، سنحيا كما نريد حتى وإن كنا خلف القضبان، وهناك لمن هم بالخارج عليكم إكمال الطريق كي لا يعد بقاءنا خلف القضبان محرقة لسنوات عمرنا ليس إلا، نكتب لكم ولنا لنضع السجن المظلم تحت الأضواء ويصبح من محاولة المحتل لجعله أداة لقهر الإدارة وكسر العزيمة؛ إلى منارة للتطور الفكري والثقافي والأدبي. ويقول المدهون عن أنواع كتاب أدب السجون: أفرق بينهم على ثلاثة أنواع؛ أولهم سجن وكتب عن تجربته خلال فترة سجنه، والآخر سجن وكتب بعد خروجه من المعتقل، وآخر لم يسجن ولكنه تأثر بالتجربة كلها، وأبرز مثال على هذا الكاتب الفلسطيني الكبير غسان كنفاني الذي أبدع في أدب المقاومة ومنه السجون دون أن يدخل سجناً، ولكنه استطاع بحسه الأدبي الرفيع وقدرته الكبيرة على التصور أن ينقل تجارب تبدو حقيقية نكاد لا نصدق أنه لم يعشها شخصياً من فرط إبداعه وتفوقه الأدبي. والأمثلة لا تنتهي فقد كتب إبراهيم طوقان قصيدته الشهيرة «من سجن عكا» عام 1930تخليداً للشهداء عطا الزير، محمد جمجوم وفؤاد حجازي وهو لا يعرفهم شخصياً ولكنه قدم وصفاً دقيقاً يبكي من شدة تأثره وروعة تجسيده لمرارة الاعتقال والإعدام داخل جدرانه الصماء. المعاناة تولد الإبداع الإبداع يولد من قلب المعاناة، هكذا عبر الدكتور كمال الشاعر، فحسب رأيه أن الإبداع لا ينتج عن شخص عادي يعيش ظروفاً عادية، وإنما هو ثمرة تجربة قاسية تنتج أدباً راقياً، وكذلك هو السجن الذي يعد من أصعب التجارب على النفس البشرية بحجز الحرية سواء بشكل دائم أو بشكل مؤقت، ويضيف: عملية الإبداع هي تعبير ذهني قائم على مضمون وأحاسيس، يرتفع إلى درجة الروحانية والإبداع الفني، لأنه صناعة إنسانية بامتياز تقدم الخبرة والتجربة على طبق من ذهب يمتاز بالجمال بغرض إسعاد البشرية وفائدتها. ويوضح الشاعر أن الحياة الثقافية داخل المعتقلات الإسرائيلية مرت بعدة مراحل حاول في بدايتها المحتل قمع التجربة من الأساس باتباع سياسة التجهيل والتنكيل كإستراتيجية تعمل بمنهجية داخل كل المعتقلات وتمارس ضد كل المعتقلين والمثقفين منهم على وجه الخصوص، غير أنها ما لبثت أن تراجعت أمام إصرار وعزيمة هؤلاء الرجال في إثبات هويتهم الوطنية من خلال قلم وورقة دخلت إلى المعتقل بيضاء وخرجت منه تشع فكراً وثقافة وعلماً. ويختتم الشاعر كلامه بالتأكيد على خصوصية المعتقل الفلسطيني الذي حول الأسر إلى جامعة ومدرسة تشع علماً، ليكون مميزاً في هذا؛ وليثبت أن الشعب الفلسطيني أكثر الشعوب المحتلة إبداعاً. ومثالاً لا يجهل منا أحد الشاعر الفلسطيني سميح القاسم الذي سجن أكثر من مرة بسبب أشعاره المقاومة، بل وتعدى الأمر إلى فرض الإقامة الجبرية عليه وطرده من عمله مراراً، وتلقى تهديداً بالقتل إلا أنه استمر بالكتابة عن فلسطين وعن تجربة المظلومين فيها وأكثرهم السجناء والمعتقلين.