من الواضح أن مسار الحل التفاوضي في سوريا لا يملك الكثير من الحظوظ، وهو يمنى بالمزيد من الفشل، حيث ينتقل المفاوضون من جولة إلى أخرى، من دون تحقيق مكاسب فعلية، في الوقت الذي تجرى فيه مفاوضات تقودها سُلطات الأمر الواقع، هدفها إحداث تغيير ديمغرافي، يصب في مصلحة تلك السلطات، ويخدم مخططات بقائها على المدى الطويل، كما جرى مؤخراً في الاتفاق الذي سيتم بموجبه تبادل سكاني، حيث سينتقل أهالي قريتين من محافظة إدلب إلى بلدات في ريف دمشق، التي سينتقل سكانها بدورهم إلى محافظة إدلب.إن الحديث عن دولة مركزية في دمشق أصبح من الماضي، ليس فقط لأن المؤسسة العسكرية شهدت خسارات كبيرة، خلال السنوات الماضية، بل لأن وجود تلك المؤسسة العسكرية نفسه بات رهناً بالدعم المقدّم لها من حلفائها، ومن «القوات الرديفة» التي تساعدها في مهامها، وهي قوات غير نظامية، ذات طابع ميليشيوي، على غرار «قوات الدفاع الوطني»، بالإضافة إلى التواجد المباشر لقوات عسكرية غير نظامية من العراق ولبنان. في ريف دمشق، وتحديداً في الغوطة، تسيطر قوات إسلامية متعددة، بعضها موجود في الهيئة العليا للمفاوضات، مثل «جيش الإسلام»، بالإضافة إلى «هيئة تحرير الشام»، وفيها فصائل مصنفة إرهابية وفقاً للقرارات الأممية، وفعلياً فإن القوى المسيطرة على الغوطة تُخضع مجمل الحياة المدنية وفق توجهاتها ومصالحها، حتى أنها تتحكم بعمل منظمات المجتمع المدني الموجودة في المنطقة، كما أنها تقيم علاقات خارجية مع بعض دول الإقليم بشكل مباشر، بعيداً عن أي إطار سياسي للمعارضة السورية، ومن المتوقع بحسب مجريات الأمر الواقع أن تنتج تلك القوى، خصوصاً «جيش الإسلام»، تنظيماً سياسياً خاصاً، تابعاً للقيادة العسكرية، وهو الأمر الذي تظهر مؤشراته عبر المكتب السياسي لهذا التنظيم. وما ينطبق على حال الغوطة، ينطبق تماماً على الوضع في مناطق واسعة من سوريا، حيث أصبحت القوى العسكرية هي صاحبة الشأن في تحديد حياة المدن والبلدات الخاضعة لها، كما أن بعض تلك القوى، ومنذ أن اشتدّ عوده، أخذ يطرح صياغات جديدة للكيان السوري، كما في حالة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني، الذي أعلن الفيدرالية من جانب واحد، وأنشأ هيئات إدارة ذاتية تابعة لها، بالإضافة إلى الدعم المباشر الذي يتلقاه من الولايات المتحدة، ويشارك بشكل أساسي في محاربة «داعش»، وفقاً لأجندة متعددة المهام، خصوصاً الأجندة الحزبية المباشرة. لقد فشل النظام السياسي في سوريا في إخضاع الصراع وفقاً لمنطق وطني داخلي، منذ أن مضى بخطوات لا عودة فيها في تبني الخيارين العسكري والأمني على حساب الخيار السياسي، كما فشلت المعارضة السياسية في إحداث حالة المطابقة بين الجسم السياسي والجسم العسكري، وبالإضافة إلى هذين العاملين، لعبت القوى الإقليمية والدولية دوراً حاسماً في حالة التشظي التي عرفها الوضع السوري، وصولاً إلى تقلص الدولة المركزية، ما مهّد الطريق أمام تحوّل القوى المسلحة الأخرى إلى لاعب فاعل ورئيسي في تقاسم النفوذ، وكرّست نفسها مع الوقت كسلطات أمر واقع. إن الهدف الأول الذي تسعى إليه كل سُلطات الأمر الواقع، بما فيها سلطة الأمر الواقع في دمشق (النظام السياسي السوري)، هو المحافظة على وجودها ومكتسباتها، بعيداً عن أي مشروع وطني جامع للسوريين، وهو ما سيفسح المجال لاحقاً إلى تحويل التفاوض السياسي من تفاوض على صيغة الانتقال السياسي إلى تفاوض بين سُلطات الأمر الواقع، بهدف تقاسمها النفوذ السياسي، بوصفها قوى مذهبية ومناطقية وإثنية، وذلك عبر صيغ دستورية على مقاسها، تمكّنها من الديمومة، عبر إضفاء الشرعية على وجودها. إن اللوحة الراهنة للجغرافيا السورية تظهر بوضوح مدى التمزّق الذي أصاب الكيان السوري، بحيث بات الحديث عن إعادة بناء النسيج السوري على مقومات وطنية صرفة مجرد أمنية، فالواقع في كل تفاصيله يكشف حالة غياب القوى الوطنية الوازنة القادرة على إعادة القطار إلى سكة الوطنية السورية، كما يكشف عن الصعوبات والمعيقات التي تقف في وجه بناء قوى وطنية، ذات امتداد جماهيري، يمكن لها أن تحدث مع الوقت تعديلاً في ميزان القوى، الذي تهيمن عليه سُلطات الأمر الواقع. وإذا ما مضى السيناريو السوري وفقاً لحالة توازن الضعف الراهنة على مستوى الداخل، ووفقاً لنقص الإرادة الإقليمية والدولية في الوصول إلى تسويات جذرية، فإن نتائج أي تفاوض لن تكون في مصلحة عموم السوريين، فسلطات الأمر الواقع غير معنية بأي خطط وطنية جامعة، وستقبل أن تحافظ على مكانتها ودورها في دولة فاشلة وفق كل المعايير الوطنية والدولية، وسيكون على السوريين أن يبدأوا مسيرة نضالية جديدة، في ظل معطيات بالغة القسوة، اقتصادياً واجتماعياً وإنسانياً. حسام ميروhusammiro@gmail.com