نزار الفراوي-الرباطالتأمت نخبة من الكتاب والنقاد المغاربة والمصريين أمس الجمعة في الرباط، ضمن ندوة تكريمية للأديب المصري الراحل جمال الغيطاني (1945-2015) الذي بدا في مداخلات المشاركين كاتبا مفردا بصيغة الجمع، وضع إبداعه الأدبي في قلب سؤال الهوية. اللقاء الذي نظم بمبادرة مشتركة بين جامعة محمد الخامس والسفارة المصرية والمركز الثقافي المصري بالتعاون مع اتحاد كتاب المغرب، استعاد سيرة كاتب ساهم في صنع لحظة جديدة من مسار الرواية العربية على مستوى الشكل والمضمون الذي وسمه انشغال مزمن بسؤال الهوية في دوائرها الوطنية والقومية والإسلامية ثم الكونية. رأى الكاتب المصري محمد بدوي أن جمال الغيطاني بوصفه أحد رموز جيل الستينيات في الأدب المصري الحديث، يعد ابنا لإشكالية الهوية التي تلقت ضربة موجعة وجرحا عميقا إثر هزيمة 1967. الخوف من استباحة هذه الهوية التي تصنع عمليا وذهنيا تلك الكتلة الجماعية المسماة وطنا، هو ما استنفر الحاسة الإبداعية لهذا الجيل في سعيه إلى تأسيس رؤية مغايرة للكتابة، والحياة والمجتمع والسلطة. وقال بدوي إن الغيطاني -مؤلف "أوراق شاب عاش منذ ألف عام"- واجه بوعي حاد سؤال الوجه المزدوج للحداثة، بغواياتها وإغراءاتها من جهة، وبطابعها الغازي الاستعماري من جهة ثانية، وتمثل حضور هذا السؤال في حرص الأديب على تأصيل الشكل الروائي وزرع النص في تربته التاريخية والاجتماعية والثقافية.الناقد المغربي بشير القمري تحدث عن الغيطاني المتعدد والمتجدد (الجزيرة) طريق الخصوصيةوحرص الغيطاني على أن ينتج نصا روائيا مغايرا من داخل الثقافة العربية، في محاولة لتحويل النوع الروائي الذي ظهر في صلب الثقافة الغربية لخدمة ثقافة أخرى وهوية أخرى، ليس فقط على مستوى مضمون الحكاية، بل أيضا على طريقة صناعتها. ومن المفارقة أن الغيطاني صنع هذه المغايرة تجاه والده الروحي نجيب محفوظ الذي رافقه وكان ركنا أساسيا في مجلسه، حيث اختار الراحل ربط نصه ربطا شديدا بالتاريخ -حسب الناقد المغربي بشير القمري- إلى درجة اجتراح لغة تراثية أصيلة تنسجم مع اختياره إسقاط وقائع الماضي على أعطاب الحاضر، منفتحا على إمكانيات الكتابة التاريخية والصوفية والسيرة الشعبية في اشتغاله على ثالوث الذات والذاكرة والمتخيل. وقال القمري الذي عمل كثيرا على نصوص الغيطاني، إن الثقافة الموسوعية لصاحب "الزيني بركات" تسقي نصوصه الروائية وتمنحها قلقها وتوترها واشتباكها مع قضايا الثقافة والهوية والوجود وغيرها من الأسئلة الفلسفية والجمالية. واختار القاص المصري سعيد الكفراوي أن يقدم شهادة حميمية عن "رفقة عمر" جمعته بالراحل على مدى ما يناهز نصف قرن، تخللتها حكايات وذكريات ومعارك حامية أيضا في بعض الأحيان، مسجلا أن الغيطاني هو من فتح له باب الولوج إلى "شلة" نجيب محفوظ وأفسح له مقعدا في مقهى "ريش" القاهري، حيث كان يلتف شباب الأدب في الستينيات حول "الأب" الذي تمردوا عليه أدبيا في غمار بحثهم عن خصوصية كل منهم. وقال الكفراوي ان الغيطاني أحد صناع جيل مجدد في تاريخ الأدب المصري -على غرار صنع الله إبراهيم وأمل دنقل ومحمد عفيفي مطر وغيرهم- من أهم صفاته تنبؤه بهزيمة 1967 التي حفرت جرحا في الذات الفردية والجماعية.القاص المصري سعيد الكفراوي يستعيد في شهادته رفقة عمره مع الرحيل الغيطاني(الجزيرة) هوى مغربيهو الكاتب المتعدد كما عكست ذلك شهادات تناولت أبعادا مختلفة في الشخصية الإنسانية والإبداعية للغيطاني. ولم يكن للكاتب المغربي عبد الإله بن عرفة المختص في التصوف والرواية العرفانية، أن يغفل عن تسليط الضوء على البعد الصوفي في سيرة الراحل الذي كان شديد الصلة ودائم البحث في تراث كبار رجال الصوفية من قبيل محيي الدين بن عربي وأبي الحسن الششتري. وأبرز بن عرفة أن شغف الغيطاني بالتراث الصوفي كان أحد مداخل علاقته الوطيدة بالمغرب الذي ظل يتردد عليه منذ العام 1979، وبرصيده الروحي وأقطابه الذين استقر جلهم بمصر، حتى كان جل أوليائها منحدرين من المغرب. ولعل هذا المدخل الروحي قاد الغيطاني -حسب الكاتب- إلى الإيمان والمراهنة على قوة وزخم الذاكرة الثقافية والروحية بين المغرب ومصر، كقاعدة لبناء جسور تواصل وتفاعل ثقافي خلاق من أجل المستقبل. هو "هوى مغربي" أجمع الكتاب المغاربة والمصريون على اعتباره رافدا هاما لمقاربة الغيطاني لإشكالية الذاكرة وسؤال الحداثة والتراث، حين رأى أن المغرب برصيده الروحي وإرثه الأندلسي الذي حفظه وأدمجه في إيقاع الحياة الاجتماعية والثقافية معمارا وفنا موسيقيا وتراثا شفويا ومطبخا، يشكل نموذجا ملهما في تملك الذاكرة دون عقد.