تصدح الموسيقى في شارع الحبيب بورقيبة، وسط العاصمة التونسية، وفي الشوارع المتفرعة عنه. أمام دور السينما والثقافة، ستلفت انتباهكم تجمعات من الناس يشاهدون فرقاً تعزف بعض الأغاني المختلطة اللغات على آلاتهم المفضلة: الغيتار والطبلة والدربوكة التونسية. وقد يندفع أحد الحضور فيجد نفسه يرقص بين الجموع على الأنغام، وينتهي العرض بالجمهور مقدماً مبالغ رمزية للعازفين. لم يكن هذا حال الشوارع في تونس قبل الثورة. فما الذي تغير؟شبان يتحدون مضايقات السلطة لا ترقص السلطة فرحاً على أنغام موسيقى الشارع ولا تسعد بها كالمارة. فهي تراها مظهراً مزعجاً يشوش على حركة الناس، إضافة إلى كونها عملاً ثقافياً موازياً خارج إطار القانون ويجب أن يخضع لرقابة الدولة. كانت حجتها أن الشارع مخصص لمرور الناس وليس للاحتفالات، لكن يعتقد البعض أن وراء ذلك حقيقة أن الدولة ما زالت تتصرف بمنطق تضييق الحريات الذي ورثته عن أيام الديكتاتورية قبل العام 2011. وهو ما فتح إشكالية فعلية بين فناني الشارع والسلطة الأمنية التي قامت سنة 2015، بإيقاف مجموعة "الفن سلاح" التي تأسست بعد الثورة، وإلزامها بعدم العودة إلى الشارع مرة أخرى. لكن أفراد المجموعة قالوا إنهم سيواصلون تحدّيهم لأي قرار يحدّ من حقهم في الغناء، الأمر الذي فتح جدلاً إعلامياً واسعاً. عازف الغيتار مهدي خليفة (28 عاماً) هو أحد الشباب الذين تم إيقافهم حينها. يقول لرصيف22 إن العملية تمت في بداية أبريل ذاك العام، عندما عمد أمنيون بزي مدني اقتيادهم من شارع جون جوراس المتفرع عن شارع الحبيب بورقيبة، إلى مركز وسط العاصمة. ويضيف خليفة أنهم أُجبروا على توقيع التزامات، يصفها بأنها غير قانونية، بعدم العودة إلى العزف في الشارع. وهو ما لم يتم تطبيقه بعد الضغط الإعلامي والشعبي الكبير. يقول إسلام الجامعي (25عاماً)، عازف العود والباحث في الموسيقى والغناء العربيين في المعهد العالي للموسيقى بتونس لرصيف22، إن الشارع يزخر بمواهب نادرة وهم شباب يمارسون هوايتهم دون إزعاج أحد. فرقة تونسية من الهواة في شارع الحبيب بورقيبة وأكبر خطأ اقترفته السلطة هو مضايقة هؤلاء الهواة باعتبارهم يمارسون عملاً إبداعياً يعجب الناس ولا يمثل إشكالاً كبيراً، وهو موجود في أكبر الدول في العالم ويعرف إقبالاً وإعجاباً كبيريْن. ويضيف أن الأفضل لهؤلاء الشباب هو الانشغال بالأنشطة الثقافية وممارسة هواياتهم الموسيقية بدل استقطابهم من مافيات الجريمة والمخدرات والإرهاب. أقوال جاهزة شاركغردلا ترقص السلطة التونسية فرحاً على أنغام موسيقى الشارع ولا تسعد بها كالمارة. فهي تراها مظهراً مزعجاً شوارع قبل الربيع العربي لم يكن الموسيقيون في العالم العربي يقبلون على الشارع بسبب الرقابة الشديدة التي فرضتها السلطات ومنعها ما سمته بالـ"التجمهر". لكن يعتبر البعض أن الظهور الأول لموسيقى الشارع في بلد عربي كان في الجزائر أيام الاحتلال الفرنسي، وتواصلت حتى أواخر ثمانينات القرن العشرين مع بداية الأزمة السياسية والأمنية في البلاد. أما في تونس، فقد شهدت الشوارع بعض الأشكال الاحتفالية والعروض الموسيقية، لكنها كانت مناسباتية تنظمها السلطات لتسوق للنظام الحاكم وتبقى تحت رقابة أمنية مستمرة. وقد حاول بعض الشباب حينها ممارسة هوايتهم في شوارع العاصمة، بشكل عفوي، إلا أن النظام واجههم، وتم منعهم من ذلك. وهذا ما حدث مع مهدي خليفة (28 عاماً)، عازف الغيتار، الذي قال لرصيف22، إنه ومجموعة من رفاقه حاولوا سنة 2008 تحدي العُرف والتأسيس للعزف في الشارع، لكن قمع السلطة منعهم من ذلك. داهمتهم قوة أمنية وهم في شارع ابن خلدون بالعاصمة وأخذت منهم آلاتهم ونبهتهم إلى عدم الاقتراب من وسط المدينة عبر التزامات مكتوبة في أحد المراكز الأمنية. إلى أن جاءت انتفاضات الربيع العربي، مطيحةً ببعض الأنظمة، بما فيها تونس، وتحررت الكثير من الأنشطة الشبابية. وقد أصبحت حينها الشوارع في تونس ومصر فضاء رحباً للتظاهرات الشعبية والحفلات الفنية، وقد سميت في مصر فن البلكونة.أكمل القراءة موسيقى ما بعد الثورة بعد الثورة، تغير الأمر تماماً. فخلال المنتدى الاجتماعي العالمي، الذي انتظم في تونس عام 2013، بدأت هذه الموسيقى في الظهور عبر مجموعات شبابية قادمة من أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية، ولفتت الظاهرة انتباه المواطنين في شوارع البلاد. تشجع عازفو البلد الشباب، وقرروا خوض هذه التجربة فرادى أو من خلال فرق كونوها حديثاً، واختاروا أن يكون الشارع مسرحهم، لأن بعضهم لم يجد مسارح تحتضنه، والبعض الآخر أراد أن يتمرد على الشكل التقليدي للتظاهرات الفنية. جاء عازف الغيتار أنيس العلوي (28 عاماً) إلى العاصمة التونسية من مدينة السرس أقصى شمالي البلاد قبل عشرة أعوام ليشتغل أشغالاً هامشية، لكنه قرر بعد الثورة أن يطور موهبته في الموسيقى، فاختار الشارع للتعبير عن ذلك. أنيس العلوي يعزف في الشارع أبهره الغناء في الفضاء المفتوح، فكان من أول من بادر بطرح الموسيقى في الشارع، كما يقول لرصيف22. يتنقل للعزف على غيتاره مع جملة من رفاقه بين شوارع العاصمة: من الحبيب بورقيبة إلى مرسيليا وباريس وابن خلدون، ويغني أغاني الراب الجزائرية وأغاني موسيقى الغمارة المغربية (Gmara)، إضافة إلى الأغاني التونسية التي تتغنى كلمات بعضها بالحرية: "يا نموت بالنار حر ولا نعيش بالغصة محروق".كيف باتت مركزاً للتمرد؟ في الأصل، موسيقى الشارع ظاهرة قديمة، ونوع من فن الهواة غير المتقيد بالمكان أو الزمان وغير الخاضع لقوانين العمل الثقافي التقليدي. وهي شكل من أشكال التحرر من الفضاءات المغلقة كالمسارح أو القاعات. كانت بدايات انتشارها في أوروبا منذ مطلع القرن الماضي وربما قبله بقليل، كنوع من التعريف بالذات لبعض الهواة، ووسيلة للبحث عن المال أو كردة فعل على واقع سياسي أو اقتصادي. ثم اشتهرت هذه الموسيقى في فرنسا خلال الفترة التي سبقت أحداث ماي 1968 ، وهي انتفاضة طلابية وقعت في العاصمة الفرنسية باريس بعد تضييقات حكومية على المثقفين والأدباء وحالة عدم رضى شعبية على السياسة الخارجية التي تنتهجها حكومة الجنرال شارل ديغول آنذاك. كان الطلاب يلتقون في جامعاتهم وفي الشوارع والساحات العامة ويغنون أغانيَ غاضبة على السلطة ورافضة للممارسات الخاطئة تجاه مثقفي البلاد. منذ ذلك الوقت، أصبحت موسيقى الشارع رمزاً للتمرد على الأنظمة أو شكلاً من أشكال الرفض والمعارضة أو الوقوف مع الفقراء والمظلومين ليس في فرنسا فحسب بل في كل بقاع العالم. فهل تنجح موسيٍي الشارع التونسي في تحدي السلطة ورفع صوت التمرد عالياً؟اقرأ أيضاً"توحيدة بالشيخ": قصّة أوّل طبيبة في تاريخ تونسلماذا اشترى أردوغان طائرة بن علي؟لماذا كل هذه العنصرية ضد أصحاب البشرة السوداء في تونس! كلمات مفتاحية الثورة التونسية الموسيقى تونس موسيقى التعليقات