النسخة: الورقية - دولي ذهبتُ إلى مصر لأطمئن، فثمة ما يقلق من أزمة اقتصادية مستمرة، إلى سد النهضة في إثيوبيا، إلى إرهاب فالت من كل عقال في القاهرة والاسكندرية، والدلتا والصعيد وسيناء. وصلتُ لأُفاجأ بما لم أتوقع فقد سقط عشرات القتلى والجرحى في مواجهات دامية في أسوان بين عشائر الهلايلة والدابودية. وقرأتُ أن سبب الخلاف تحرُّش بفتيات أو «غرافيتي» مسيء على الجدران. العشائر التي أعرف من الأردن إلى لبنان أكرم من ذلك وأصلب، فميثاق الشرف العشائري هو: أرض وعرض وفرض، والكلمة الأخيرة تعني الأخذ بالثأر، ولا قتل خارج هذه الشروط. في غرابة ما سبق أو سوئه، أن أجد أن للإخوان المسلمين بنات يتظاهرن، أقول لهن أنهنّ سيبكين دماً لو «انتصرت» الجماعة، فمكانهنّ بين المطبخ وغرفة النوم، وهو سيتزوج عليها أو يطلّقها وستسمع الخبر «السعيد» من الجيران. هناك دائماً في مصر أشياء أفضل، وقد مضى وقت كانت مصر فيه سدرة المنتهى للكاتب العربي أو الشاعر أو المفكر، فهو لا ينجح إلا إذا نجح في مصر. نجاحه في بلاده لا يكفي. مصر رعت جرجي زيدان وآل تقلا وصرّوف والبساتنة واليازجيين، وشاعر القطرين خليل مطران، وإيليا أبو ماضي الذي ذهب إلى أميركا من دون أن ينسى مليكة الشرق ذات النيل والهرم. لم أحلم يوماً أن ألحق بالركب، غير أنني ذهبتُ إلى القاهرة وقد فزتُ بجائزة «شخصية العام الصحافية» من مؤسسة مصطفى أمين وعلي أمين. ضمت قاعة توزيع الجوائز بعضاً من خيرة المفكرين المصريين. وشكرتُ وتلعثمتُ وقلت للحاضرين إن الجائزة فوق حقي ودون قدرهم. كانت مع الجائزة مكافأة مالية بمبلغ 20 ألف جنيه مصري تبرّعت بها كلها قبل أن أغادر القاهرة. استرجعتُ بعض ما أعرف عن الأخوين العظيمين، فقد عرفتُ علي أمين معرفة محدودة في دار الصياد في لبنان، عندما سُجِن أخوه مصطفى في مصر. أما مصطفى أمين فجمعتني به صداقة عمر، وكان الأخوان هشام ومحمد علي حافظ قدّماني إليه بعد أن قبل عرضنا ليكتب زاويته «فكرة» في «الشرق الأوسط» بعد تأسيسها في لندن سنة 1978 وأنا رئيس تحريرها. كان إعجاباً من أول نظرة، فقد اجتمعتُ ومصطفى أمين في أحد فنادق لندن، وهو رفض أن يتحدث عن أجر أو فلوس، وإنما كان يهمه فقط أن تُنشر زاويته كما هي، من دون حذف أو تعديل، ووعدته بذلك. فوجئتُ بصدق مصطفى أمين وإنصافه وموضوعيته، فهو قال لي إن جمال عبدالناصر الذي سجنه، زعيم كبير له كاريزما تجمع الناس حوله، وأن أنور السادات الذي أطلقه ينفع «عُمدة». على مدى معرفتي بمصطفى أمين لم أسمع منه كلمة سوء بحق الأستاذ محمد حسنين هيكل على رغم المنافسة بينهما. لا أنسى يوماً زرته في مكتبه في دار «أخبار اليوم» لأفاجأ بأكياس كبيرة ملأى بألوف الرسائل في مناسبة «ليلة القدر». لا أعتقد أن صحافياً في الشرق أو الغرب تلقى في سنة نصف ما كان مصطفى أمين يتلقى في يوم واحد من أيام «ليلة القدر». الجهد الإنساني والصحافي مستمر، فهناك جوائز وجمعية خيرية باسم الأخوين. وسرني أن أرى الأخت صفية مصطفى أمين بعد أن تحدثنا على الهاتف، والأخت منى علي أمين. واسترجعتُ وأنا أنظر إليهما ذكريات لا أنساها عن أبويهما. كانا من جيل من العمالقة لن يعود. الاحتفال اختُتم بجلسة خاصة مع رئيس الوزراء المهندس إبراهيم محلب، وهو قدّم عرضاً صادقاً وافياً للمشاكل التي تواجهها مصر، وبدا متفائلاً بفرص النجاح في حلها. وسألته كم يعطي فرص النجاح على مؤشر من واحد إلى عشرة، وقال: تسعة. وسألتُه ما هي المدة المطلوبة لحل المشاكل وقال: من خمس سنوات إلى عشر. أرجو أن أعيش لأرى أياماً أفضل في مصر، شعبها يستأهل كل خير.