يخطئ من يتصور أن بالإمكان متابعة سياسة الولايات المتحدة تجاه العالم من خلال متابعة سياستها الخارجية والعسكرية وحدها. فليس صحيحاً أن هناك حداً فاصلاً بين ما هو داخلي وما هو خارجي في الولايات المتحدة الأميركية؛ فالهزيمة التي مني بها الجمهوريون في الرئاسة والكونغرس هذا الأسبوع بخصوص برنامج الرعاية الصحية لها تداعياتها على السياسة الداخلية والخارجية الأميركية على حد سواء. وهي تطرح التساؤلات حول إعادة ترتيب أجندة الرئيس والكونغرس معاً. ولا يوجد ما هو أكثر تعبيراً عن التداخل بين الداخلى والخارجى من قضية الرعاية الصحية في أميركا. فالولايات المتحدة واحدة من أقل دول العالم الغربي توفيراً للتأمين الصحي الشامل لمواطنيها. صحيح أن هناك برنامجين حكوميين للرعاية الصحية أحدهما لكبار السن، تموله الحكومة الفيدرالية بالكامل، والآخر للفقراء وذوي الإعاقة، وتمول الحكومة الفيدرالية 60 في المئة من تكاليفه بينما تتولى حكومات الولايات 40 في المئة، إلا أن برنامج الرعاية الصحية لكبار السن، الرعاية الطبية، يقوم على اشتراك الفرد فيه منذ سني شبابه، أما برنامج الفقراء، المساعدة الطبية، فهو يتطلب انطباق شروط بعينها على طالب الخدمة، وللولايات مساحة واسعة من القرار تصل لمطالبة المشترك بدفع أقساط شهرية. ولأن تكاليف الرعاية الصحية بأميركا من الأعلى في العالم، لأنها عرضة لتقلبات السوق وتتحكم فيها كبريات شركات التأمين والأدوية، فإن كل ما يتعلق بالرعاية الصحية يؤثر بشكل مباشر على مجمل الاقتصاد الأمريكي. ففي أميركا نوعان من الإنفاق العام، الأول إلزامي، أي تلتزم به الحكومة الفيدرالية، والثاني تقديري، أي تنفقه بناء على تقدير صانع القرار للحاجة إليه. والإنفاق الإلزامي هو ذلك الذي يذهب لما يسمى برامج «الأحقيات»، مثل برنامج المعاشات، الضمان الاجتماعي، وبرنامجي الرعاية الطبية والمساعدة الطبية. وهي تسمى برامج «الأحقيات»، لأنه متى انطبقت الشروط على المنضم لها فإن «من حقه» الانتفاع بها طوال حياته، مثل برنامج الرعاية الطبية لكبار السن، أو طالما لا تزال شروطه منطبقة عليه مثل المساعدة الطبية للأسر الفقيرة والذين يعانون من الإعاقة. ويستحوذ الإنفاق الإلزامي على قدر هائل من الإنفاق العام نظراً لزيادة أعمار المسنين، الأمر الذي يرفع من نسبة الإنفاق على برنامج المعاشات والرعاية الطبية للمسنين. وارتفاع النسبة المقتطعة من الميزانية للإنفاق الإلزامي معناه تضاؤل نسبة الإنفاق التقديري، الذي يشمل كل ما عدا ذلك من إنفاق حكومي خارجي وداخلي على السواء. ومن هنا، تأتي أهمية متابعة الداخل الأميركي لفهم السياسة الخارجية. فالمعركة التي دارت بشأن برنامج الرعاية الصحية لها تأثير مباشر على مجمل جدول أعمال الرئاسة والكونغرس في الفترة المقبلة. فالرئيس دونالد ترامب أطلق أثناء الانتخابات تعهداً متكرراً بإلغاء قانون الرعاية الصحية الذي كان قد أصدره أوباما في 2010. وهو قال بشكل محدد إنه إذا ما فاز بالرئاسة وفازت معه أغلبية من الجمهوريين في الكونغرس فإنه يتعهد بأن يقوم «فوراً» بإلغاء ذلك القانون الذي أطلق عليه الجمهوريون، تهكماً، منذ إصداره اسم «أوباما كير» وظل من وقتها يعرف بذلك الاسم. والجمهوريون ظلوا منذ صدور القانون يتعهدون بإلغائه في كل انتخابات يدخلونها. لكن، الجمهوريون الذين فازوا بالرئاسة وبأغلبية مريحة على الأقل في مجلس النواب فشلوا في تنفيذ ذلك التعهد. وما قاله ترامب فور الهزيمة يطرح المزيد من التساؤلات. فهو تعهد بالانتقال فوراً لمشروع قانون آخر، هو «الإصلاح الضريبي»، الذي كان قد تعهد فيه بخفض ضريبي هائل. وهنا تكمن المعضلة. فإدارة ترامب كانت قد أعلنت أنها تطلب من الكونغرس رفع الميزانية العسكرية بمقدار 54 مليار دولار، وهو ما يعني أن الميزانية العسكرية التي تلتهم أصلا الحجم الأكبر من الإنفاق التقديري ستتوسع على حساب برامج أخرى داخلية وخارجية. والخفض الضريبي الذي يقترحه الرئيس وحزبه في الكونغرس من شأنه أن يؤدي لمزيد من الانكماش في باقي الإنفاق التقديري الموجه لبرامج السياسة الداخلية والخارجية على السواء. وكان من بين الضحايا بالفعل وزارة الخارجية الأميركية التي يقترح ترامب تخفيض ميزانيتها بواقع 29 في المئة. لكن الأهم من ذلك كله أن تلك هي أولى محاولات الرئيس الجديد ترامب منذ توليه لتمرير تشريع بعينه في الكونغرس. وحين يمنى أي رئيس بهزيمة مبكرة في الكونغرس، خصوصاً إذا كان حزبه يحظى بالأغلبية فيه فإنه يمنح معارضيه درجة أعلى من الجرأة على تحديه ويؤثر بالضرورة على مجمل أجندته الداخلية والخارجية على السواء. وفي حالة ترامب تحديداً، لم يعارضه فقط الديمقراطيون في الكونغرس وإنما كان الأكثر معارضة له هم الأكثر يمينية في حزبه. ومن هنا فإن السؤال الأهم هو ما إذا كان ترامب سينجح في حشد أعضاء حزبه للوقوف وراء أجندته الخارجية والداخلية.