قبل 40 عاماً، أسست «حملة حقوق الإنسان الفلسطيني» وكتبت أن «الفلسطينيين هم الضحية المجهولة». وكنت أخشى أن يكون الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني قد اختزل في العقل الأميركي إلى معادلة مبسطة: الإنسانية الإسرائيلية في مقابل المشكلة الفلسطينية. فحين فكر معظم الأميركيين في الصراع، تخيلوا الإسرائيليين كبشر مثلنا، آباء يحبون عائلاتهم وينشدون السلام والرخاء والفرصة لمراقبة أبنائهم يكبرون ويحققون أحلامهم.. إنهم إناس لهم أسماء ووجوه ويشعرون بالألم والفقدان. إنهم حقيقيون! أما الفلسطينيون في الجانب الآخر، فهم في أحسن الأحوال، أشياء مجرّدة، لا وجوه لهم ولا أسماء، أو شخصيات، وإذا ما تم الحديث عنهم، فإنهم إما لاجئون أو إرهابيون أو مجرد أعداد من القتلى. فلا نعرفهم كأفراد وعُرض ما نعرفه عنهم بصورة سلبية، ولا نعرفهم من صفاتهم سوى أنهم غاضبون وعنيفون ولا يوثق بهم، وهم ليسوا أناساً يستحقون الدعم، بل مشكلة تحتاج إلى حل. حملة منظمة من هذا المنظور، كان معظم الأميركيين، سواء من صناع القرار أو الناس العاديين، يرون هذا الصراع، وحين تتاح لهم الفرصة للاختيار، بين الناس أو المشكلة، كان من السهل عليهم اختيار دعم الشعب الإسرائيلي. وهذا التوصيف للمسألة لم يأت بالصدفة، بل كان نتيجة لحملة منظمة لنزع الصفة الإنسانية عن طرف وإلباسها للطرف الآخر، وتصوير الأمر على أنه «إسرائيليون شجعان» يقاتلون عربا متوحشين! وخلال العقود التالية، استمر هذا التصوير للصراع، ففي اشتباك حدودي بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1981، قُتل جنديان إسرائيليان، فقامت شبكات التلفزة باجراء مقابلات مع عائلتيهما وتحدثت عن مخاوفهما وآلامهما، وفي اليوم التالي قتلت إسرائيل في غارات جوية 383 لبنانيا وفلسطينيا في الفاكهاني. وكانت محطات التلفزة حاضرة في شمال إسرائيل وتجري المزيد من المقابلات، وتجاهلت أي تغطية من لبنان باستثناء ذكر عدد الضحايا، وفي اليوم التالي، اكتفت محطات التلفزة بإظهار الدمار الهائل ولم تجر أي مقابلة مع عائلات الضحايا. النمط السائد وفي عام 1994 حين قام المتطرف الصهيوني باروخ غولد شتاين بقتل 29 فلسطينياً أثناء الصلاة في الحرم الإبراهيمي، نشرت صحيفة واشنطن بوست تحقيقاً في محاولة لفهم ما جرى لذلك الشاب الأميركي ليتحول إلى إرهابي، ولم تتطرق أبداً إلى وجوه أو أسماء أو أعمار الضحايا الفلسطينيين، وكان غولد شتاين هو القصة أما ضحاياه، فغير معلومين، وبعد عدة سنوات، لقي طفل إسرائيلي مصرعه على يد قناص فلسطيني، فاحتل النبأ صدارة الأخبار على مدى ثلاثة أيام مع الصور والمقابلات مع والديه، وحين قُتل فلسطيني عمره ثلاثة أيام – على يد قناص إسرائيلي، لم تنشر النبأ أي صحيفة كبرى. وما زال هذا النمط هو السائد في التعاطي الأميركي مع الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني حتى اليوم، حتى أن أكثر الأصوات تقدمية في الكونغرس لا تتحدث عن الفلسطينيين، بل يؤيدون حل الدولتين من أجل الحفاظ على إسرائيل كدولة يهودية ديموقراطية، وخوفاً من الخطر الديموغرافي الذي يمثله الفلسطينيون على الدولة اليهودية. التحدي الأكبر ولسوء الحظ ان التقدميين الأميركيين يسهمون في هذه النظرة لفشلهم في رفع درجة إنسانية الفلسطينيين، حيث تتركز جهودهم على التنديد بالسياسات الإسرائيلية والدعوة لمقاطعتها، وهما أمران مشروعان ومطلوبان، لكن يجب عدم اغفال ذكر القصص الشخصية للضحايا الفلسطينيين للاحتلال الإسرائيلي. وهكذا، تبقى المشكلة على حالها، وما زال الأميركيون يجهلون الفلسطينيين كأناس حقيقيين، ولذلك فهم لا يكترثون لمعاناتهم، ولأن ذلك يظل التحدي الكبير الذي نواجهه، فقد قررت بعد مئة عام على صدور وعد بلفور و70 عاماً على قرار التقسيم و50 عاماً على حرب 1967، العودة إلى الجذور لسرد الرواية الفلسطينية. وهذا يعني بالضرورة الاصطدام بالرواية الصهيونية التي تنكر ليس فقط إنسانية الفلسطينيين، بل وجودهم أيضاً كشعب وتاريخ. أريد أن أركز على إنسانية الشاعر والفنان في فلسطين. أريد أن أسلط الضوء على الرواية الفلسطينية وتجسيد التجربة الفلسطينية، وتحدي الأميركيين بأن ينظروا إلى الفلسطينيين كشعب حقيقي يستحق العدالة والمساواة والرخاء وكعائلات تحب أبناءها وترغب في رؤيتهم ينشأون ويكبرون ويحققون أحلامهم. وقد يرى البعض في ذلك تهديداً له، لأنه يمثل تحدياً للمعادلة العنصرية التي نظر من خلالها إلى هذا الصراع طوال قرن كامل من الزمن، فإذا كان الأمر كذلك.. فليكن.د. جيمس زغبي** رئيس المعهد العربي الأميركي في واشنطن.