النسخة: الورقية - دولي إذا استثنينا رواية فيكتور هوغو الضخمة «البؤساء» التي هي حال على حدة في تاريخ الفن الروائي على أية حال، يمكننا أن نقول إن رواية هذا الكاتب «عمال البحر» هي الأشهر بين أعماله الكثيرة، والأكثر إثارة للمشاعر. وكذلك هي الرواية التي نالت، في زمنها، من إجماع النقاد ما لم ينله أي عمل آخر لهوغو. ولا يعود هذا الإجماع فقط إلى واقع أن هوغو حين كتب «عمال البحر» كان قد دخل مرحلة النضج المطلق، إذ أنه كان في الرابعة والستين حين نشر هذه الرواية في عام 1866، بل إلى تلك القوة، في الموضوع والأسلوب، التي تجعل من «عمال البحر» رواية انتقالية بكل ما في هذه الكلمة من معنى، ولا سيما من ناحية جمعها العجائبي بين أعلى درجات الحس الرومانطيقي - الذي طبع معظم أعمال هوغو - وبين النزوع إلى التقدم، في التعاطي مع العلم وفي مجال التقنيات. والحقيقة أن فيكتور هوغو تمكن من الوصول إلى هذه المعادلة، من دون أن يضحّي بنزعته الرومانطيقية لحساب نزعته التقدمية ولا بهذه لحساب تلك. لقد عرف هنا كيف يقيم توازناً بين العنصرين مدهشاً، وليس فقط في الموضوع، بل في الصور التي رسمها قلمياً، وخصوصاً في رسمه لشخصية جيليا، ذلك البحار الاستثنائي، الآتي من اللامكان، والذي يلعب في الأحداث دوراً رئيسياً ومزدوجاً: فمن جهة هو الرومانطيقي العاشق الذي، مثل عشاق الأزمان القديمة، يضحّي بكل شيء لكي تسعد معشوقته ولو مع شخص آخر، وهو من جهة أخرى، منقذ التقدم وزمن الآلة التقني من براثن ذلك النوع المتخلف من العمال الذين يرون في التقدم وما يستتبعه، زوالاً لهم ولأنماط عملهم القديمة. فإذا أضفنا إلى هذا أن «عمال البحر» تبدو في البداية على شكل حكاية خرافية - نجد ما يشبهها كثيراً في «ألف ليلة وليلة» مثلاً، كما في العديد من الحكايات الإغريقية وأساطير العديد من الشعوب، حيث يدور الموضوع المركزي من حول صاحب السلطة الذي يعد بتقديم يد ابنته لمن يحقق مأثرة ما، فينطلق المتبارون خائضين الصعاب -، ثم تبدو في النهاية عملاً واقعياً يسير على إيقاع زمنه في ترويجه للتقدم والانتصار له، نفهم كيف أن فيكتور هوغو اعتبر في «عمال البحر» رائداً كبيراً من رواد القرن العشرين. > كما يدل عنوانها، تدور أحداث رواية «عمال البحر» في مدينة فرنسية بحرية. بادئة مع العجوز ليتييري، صاحب المراكب، الذي كان في ذلك الحين، بحسب الرواية، أول من امتلك سفينة تعمل على البخار، من ذلك النوع الذي كان في ذلك الحين يعتبر من آيات التقدم التقني، حيث أن تلك الباخرة راحت تمخر العباب مؤمنة النقل بين سان - مالو وغيرتيزي. وطبعاً يمكننا أن نفترض، من ناحية مبدئية، أنه كان من شأن دخول مثل هذه السفينة الحديثة خط العمل أن يسر الناس جميعاً، غير أن الصيادين والبحارة العاملين في المنطقة لم يبدوا أي سرور أو رضا عن تدخل عصر الآلة هذا في حياتهم التقليدية... إنها بالنسبة إليهم منافساً قوياً قد يكون من شأنه أن يدمر حياتهم وعملهم. ومن هنا فإن السفينة البخارية «لا دوراند» باتت تعتبر الآن العدو الرقم واحد للبحارة والصيادين. ولمحاربة هذا العدو القوي والخطر، يقرر بحار عجوز ذات يوم أن يتسبب في إغراقها، تخلصاً منها من ناحية، وردعاً في المستقبل لمن يريد استخدام مثيلاتها. وهكذا إذ تغرق السفينة جزئياً يكتشف صاحبها ليتييري أن من الممكن، بعد، إنقاذها إن وجد من يساعده في تعويمها... لكن المشكلة هي أن أياً من الصيادين والبحارة، لا يتقدم للمساعدة. وليتييري وحده لا يمكنه فعل أي شيء. وإذ يقف المالك العجوز عاجزاً أمام سفينته وهي تغرق تخطر في باله فكرة: إنه على استعداد لمنح يد ابنة أخيه الحسناء ديروشيت، لمن يساعده على اجتياز محنته وإنقاذ السفينة. وإذ تبقى دعوته أول الأمر من دون مستجيب، يطلع فجأة البحار الشاب جيليا، الذي لا يعرف أحد عن ماضيه وأصوله شيئاً ويقبل الرهان، هو الذي يشعر بقية أهل المنطقة بالكراهية حياله، بسبب صمته الدائم وغموضه... وكذلك لأن أهل المنطقة كانوا يعرفون مدى هيامه بديروشيت ابنة منطقتهم المحبوبة، على رغم الموقف من عمها. وهكذا يشمر جيليا عن ساعديه ويبدأ العمل لإنقاذ آلات السفينة التي لم تتمكن مياه البحر، بعد، من إتلافها. وهو يعرف، على أية حال، أنه سيلاقي دون النجاح مصاعب جمة، بل سيضطر حتى إلى المخاطرة بحياته... ولا سيما حين يدخل المغارة البحرية وحيداً ويبدأ محاولاته، مضطراً في طريقه إلى مجابهة سلبية العمال الآخرين، وتحرك مياه البحر العاصفة، والكثير من الحيوانات المفترسة. لكنه في نهاية الأمر ينجح في مسعاه، وينقذ السفينة، أو على الأقل آلاتها. لكنه في اللحظة التي يبدو فيها سعيداً بما أنجز، وأكثر سعادة لكونه سوف يفوز بفؤاد محبوبته الحسناء، يكتشف أن هذه إنما تحب شخصاً آخر، هو القسيس البروتستانتي الشاب ايبينيزير، الذي كان سبق لجيليا نفسه أن أنقذه قبل فترة من موت محقق إذ وجده غافياً فوق صخرة بدأت تغزوها مياه البحر. إذاً، بعد شيء من التردد، يقرر جيليا، وقد رأى أن عواطف الفتاة متجهة بصدق وإخلاص ناحية القسيس، يقرر التضحية مرة أخرى بغرامه... لكنه - مثل معظم الرومانطيقيين الأبطال الذين نلمحهم في الروايات - لا يكتفي بأن يتخلى عن «المكافأة» التي كان وُعد بها، بل إنه يفعل أكثر من هذا: يساعد العاشقين على الهرب، بعد أن يرفض ليتييري رفضاً قاطعاً أن يزوج ابنة أخيه من رجل دين بروتستانتي. وإذ ينجح جيليا في «مشروعه» الجديد القائم على أسمى درجات التضحية، يطالعنا في المشهد الأخير العاشقان داخل المركب الذي يبتعد بهما إلى حيث سيعيشان سعادتهما. وهما إذ ينظران ناحية المدينة وشاطئها يخيل إليهما أنهما يريان شبح إنسان واقف بهدوء فوق الصخرة نفسها التي كاد القسيس يموت عليها ذات يوم. والحقيقة أن الشبح لم يكن خيالاً، بل كان جيليا نفسه وقد وقف هناك ينتظر الموت الذي لم يبق له سواه عزاء على كل ما حدث له، و «مكافأة» أخيرة على جهوده وتضحياته. > إن هذا المصير الجدير بأعتى الرومانطيقيين، جعل مؤرخي حياة فيكتور هوغو، ومحللي أعماله يقولون إن الحزن الذي يتسم به، على الأقل، القسم الثاني من هذه الرواية، يكاد يكون بلا مثيل في تاريخ الفن الروائي. إنه حزن عميق هاجسي وعنيد. حزن يقلب الرواية رأساً على عقب، إذ بعدما كانت في قسمها الأول أنشودة لمجد العمل، وتغنياً بالتقدم وبعصر الآلة الآتي من دون أن تتمكن كل الصعوبات من وأده، ها هي تتحول هنا إلى «ألم دافق يعتصر بطل الرواية ويشبه الألم الطالع من أفق البحر الحزين. إن جيليا، في ازدواجيته هنا يبدو، من ناحية، مشاركاً في القوة الجديدة التي تولد من رحمها فكرة التقدم، ومن ناحية أخرى يعيش استسلام الرومانطيقيين وبالتالي مصيرهم البائس». وهكذا، في نهاية الأمر، يحدث لآلات السفينة البخارية، «التي كانت تعد أول الأمر بأن تكون إيذاناً بولادة العالم الجديد، أن تصبح ذات سمات تقربها، في منظرها وسط المغارة البحرية، من أشباح القرون الوسطى الشيطانية والرومانطيقية». > وإزاء هذا كله لم يكن صدفة أن يثني النقاد، كما لا يزالون يفعلون حتى اليوم، على عمل يحمل كل تناقضات النفس البشرية، ويقف عند مفترق الطرق بين عالمين وأكثر، خصوصاً أن أسلوب هوغو ودقة وصفه، تترك الأمور، بالنسبة إلى قارئه، مفتوحة على شتى الاحتمالات والتفسيرات والعواطف. ألم نقل إنها رواية نضج هذا الكاتب الذي عاش بين 1802 و1885، وقدم للأدب الفرنسي والعالمي بعض أعظم الروائع المؤسّسة، شعراً ومسرحاً ورواية، وحتى في مجال الكتابة الفكرية المتأرجحة دائما بين أقصى درجات الرومانطيقية ونزعات التقدم الاشتراكية؟