اليوم ونحن نقترب من نهاية العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين، قد تبدو لنا الطروحات الواردة في كتاب ريجيس ديبريه «السلطة الثقافية في فرنسا» قديمة وبديهية. ولكن علينا هنا ألا ننسى أن ديبريه وضع كتابه في العام 1979، أي في زمن لم تكن العلاقة قد اتضحت تماماً، بين «الطبقة» المثقفة الفرنسية والسياسة، وتحديداً من خلال الوسيط التلفزيوني. ونتحدث هنا عن فرنسا، وكان يمكننا طبعاً أن نذكر أي بلد آخر. ففي ذلك الحين كانت الثقافة لا تزال موضوعاً يُتطرّق إليه على الشاشات الصغيرة ويُخصّ ببرامج أسبوعية أو شهرية يشار إليها كاستثناءات. ولم يكن المثقفون قد تحولوا بعد إلى أولئك الخبراء الذين يُستدعون يومياً ويُناقَشون بل يخوضون في ما بينهم صراعات ديوك تغرق خطاباتها في سطحية تفرغ اللغة الثقافية والإبداعية من محتواها. وحسبنا اليوم مثلاً أن نرصد على الشاشات الفرنسية مداخلات «كبار» الفلاسفة والمثقفين دفاعاً عن هذا المرشح الرئاسي أو ذلك، ونقارن مع تدخلات لأسلاف كبار لهم (فوكو، بارت وحتى آرون وسارتر...) كي ندرك الفرق. المهم أن كتاب ديبريه هذا أتى يومها ليسجل النقطة الانعطافية وذلك كاستكمال لا بد منه لكتابه السابق «الميديالوجيا»، الذي لا يزال يعتبر حتى اليوم علامة فارقة في هذا النوع من الدراسات كعمل جامعي ونصّ مؤسس في علم كان يبدو في ذلك الحين جديداً: علم الميديا. > في «السلطة الثقافية في فرنسا»، يقسم ديبريه موضوعه إلى فصول متتابعة لكنها مترابطة، ويؤدي كل واحد منها إلى التالي بعد أن يكون قد خدم في توضيح فكر المؤلف التحليلي، الذي من الواضح أن غايته الأساسية كانت رسم صورة شديدة الحداثة للعلاقة القائمة، والمتغيّرة بالتدريج لمصلحة الوسيط الإعلامي، بين هذا الأخير والمثقفين الفرنسيين الذين لم يجدوا بأساً في خوض اللعبة من منطلق أنها تتيح للمثقف أن يصبح جزءاً من السلطة ومؤثراً في الحياة العامة، ليس في إبداعاته هذه المرة، بل في ظهوره المتلفز. وهو، أي ديبريه، كي يصل إلى موضوعه بوضوح، بدأ في الفصل الأول راسماً صورة موضوعية لما اعتبره «تعريف الإنتليجنسيا» الفرنسية، محللاً إياها تحت كل سماتها ولا سيما من خلال الأدوار التي لعبتها وعلى الأخصّ في القرن العشرين. واستكمالاً لهذا يحقّب ديبريه في الفصل التالي ثلاث مراحل أساسية تطوّر خلالها ما سماه «الحزب الثقافي الفرنسي». وبعد هذا نجده يحلل في العمق ما سمّاه المنطق الفاعل في الحراك الثقافي واصلاً في الفصل الرابع إلى التوقف عند البعد «السمعي» الجديد للتدخل الثقافي الفرنسي كبديل للبعد الكتابي. ويقوده هذا بالطبع، في الفصل التالي إلى تحديد تلك التغيّرات الهيكلية التي طرأت على المشهد الاجتماعي - الثقافي، ما خلق «إستراتيجيات جديدة» ولوجستيات محيّرة تتعلق جميعاً بمفهوم السلطة الثقافية، انطلاقاً من التساؤل عما إذا كانت جزءاً من السلطة السياسية أو بديلا لها. أما في الفصل السادس والأخير فإن الكاتب يضع «الإنتلجنسيا» في خط التنافس بالنسبة إلى المحاور الجديدة المتعلقة بالكائن الثقافي -هو يسميه على أي حال «الحيوان الثقافي» ولكن ليس في المعنى الشتائمي للكلمة طبعاً-، بكل ما يتعلق به من مبادئ وتطبيقات. > طبعاً يمكننا أن نتصور حجم السجال الذي ثار يومها بصدد هذا الكتاب، لكنه يبدو اليوم راسخاً بعدما ولّد العديد من الدراسات المحاكية له، أما بالنسبة إلى مؤلفه، فإن الكتاب ثنّى على المكانة التي كان كتابه السابق قد جعلها له بعيداً من ماضيه الصاخب. وذلك على رغم الصدمة الأكبر التي تلقاها ريجيس ديبريه في حياته، وتمثلت في الهجوم الذي شنته عليه ابنة فيديل كاسترو يوم هربت إلى الغرب من «ديكتاتورية» أبيها، متّهمة المفكر الفرنسي، من دون أية إثباتات بأنه هو الذي سلم تشي غيفارا، صديقه ورفيقه، إلى السلطات العسكرية البوليفية المتعاونة مع وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. إذ، إذا استثنينا «شهادة» ابنة كاسترو هذه، لن نجد في أي كتاب أو أية وثيقة أو أية شهادة ما يعزز مثل ذلك الاتهام. علماً أن كتباً عدة اتهمت، من ناحية ثانية، قيادة الحزب الشيوعي البوليفي بـ «الغدر بغيفارا» وغالباً من دون أن تحدد كيف. > مهما يكن في الأمر، فإن ريجيس ديبريه كان في ذلك الوقت، حقاً، على احتكاك مباشر بثوريي أميركا اللاتينية وبقضاياها، ولكن انطلاقاً من زنزانته في السجن البوليفي الذي اعتقل فيه. فالحال أن المفكر الفرنسي «الثوري في ذلك الحين» - بحسب تعبير لاحق جاء به هو شخصياً - كان وقع في شبكة سلطات بوليفيا قبل شهور من وقوع صديقه غيفارا، أي عند نهاية شهر نيسان (أبريل) 1967. حيث في العشرين من ذلك الشهر وفيما كان ديبريه في صحبة الأرجنتيني تشيرو روبرتو بستوس، والصحافي جورج أندرو روث الذي كان أنجز حواراً مطولاً مع غيفارا، تمكنت السلطات البوليفية من اعتقال الثلاثة في منطقة نانكاهوانزو. ما إن تم الاعتقال يومها، حتى تكلم روث وباح بكل شيء، بل من المعروف أنه رسم 18 صورة لغيفارا ورفاقه والأماكن التي التقاهم فيها. أما ديبريه فإنه بعد أن ضُرب ضرباً مبرّحاً من قبل معتقليه، غاب في «الكوما» لفترة طويلة من الزمن، أفاق بعدها وهو نزيل المعتقل الذي كان يديره الكومندان لويس ريكي تيران. وخلال الشهور التالية راحت السلطات البوليفية تحاكم ريجيس ديبريه. وهي محاكمة اختتمت في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام نفسه، أي بعد أسابيع من مقتل غيفارا، وبعد نحو شهرين من بدء القوات الأميركية تدخلها الصريح في الأدغال البوليفية. > يومها حُكم على ديبريه بالسجن لمدة ثلاثين عاماً. والحقيقة أن ديبريه لم يفلت من حكم الإعدام، إلا لأن القانون الجنائي البوليفي لم يكن في ذلك الحين ينص على الإعدام. وعلى رغم هذا لم يفلت ديبريه من الركل والضرب والتعذيب كما سيروي هو لاحقاً، كذلك لم يفلت من الضغوط السيكولوجية التي راحت تمارس عليه، ووصلت إلى ذروتها حين مُثّلت عملية إعدامه من دون أن يدري هو مسبقاً، أن المسألة تمثيل في تمثيل. وهنا لا بد أن نذكر أنه من بين المحققين الذين تولوا بين الحين والآخر استجواب ريجيس ديبريه كان هناك شخص ألماني الأصل يدعى... كلاوس باربي. وكان باربي هذا ضابطاً ألمانياً هارباً التجأ إلى بوليفيا بعد أن اتهم بتعذيب اليهود وسجنهم في فرنسا وألمانيا. وهو، بالطبع، باربي نفسه الذي سيعتقله الفرنسيون لاحقاً، وسيحاكمونه. في ذلك الحين، في بوليفيا، كان باربي يختبئ خلف اسم آخر، وهو تولى استجواب ديبريه بمشاركة مسؤول محلي كان ينتسب إلى وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ويدعى إدواردو كونزاليس. وطوال فترة الاستجواب كان هم المحققين محصوراً في معرفة مكان غيفارا، ومدى خلافه مع كاسترو وعما إذا كان ذلك الخلاف حقيقياً أو وهمياً -ينتمي إلى نوع من «توزيع الأدوار» داخل صفوف الحركة الثورية التي كانت كوبا تتطلع إلى تزعمها وتفجير إمكاناتها في طول أميركا اللاتينية وعرضها-. > وكان غيفارا في موقعه في الأدغال البوليفية يتابع محاكمة ديبريه ساعة بساعة، قبل أن يقع هو الآخر في شباك السلطات البوليفية والاستخبارات الأميركية وينتهى أمره. ولقد ساءه كثيراً أن يعرف ذات مرة أن السلطات البوليفية صادرت دفاتر ديبريه ويومياته. وهو كتب يوم 3 تشرين الأول (أكتوبر) من العام نفسه، أي قبل مقتله بخمسة أيام: «لقد سُمع ديبريه وهو يجيب بكل شجاعة على أسئلة طالب كان يريد استفزازه». وتكشف آخر يوميات غيفارا عن مدى إعجابه بديبريه وتقديره له، ما يتنافى بالطبع، مع ما حاولت ابنة كاسترو الهاربة أن تقوله بعد ذلك بأكثر من ثلاثين عاماً. ومهما يكن فإن ديبريه الذي عاد إلى بلاده بعد إفلاته من السجن، راح بالتدريج يخفف من غلوائه النضالية ليتحول مناضلاً سياسياً يعمل لفترة في ركاب الرئيس الفرنسي الاشتراكي فرانسوا ميتران بالتواكب مع اهتمامه بالقضايا الفكرية ولا سيما بقضايا الصورة والإعلام التي سيضحي من منظريها الكبار في اللغة الفرنسية، كما اهتم خاصة بقضايا الثقافة والمثقفين كما يشهد الكتاب الذي نحن في صدده هنا، والذي اعتبر في حينه واحداً من الكتب التأسيسية لما سيسمى بنقد النقد الثقافي.