في أسفاري العديدة للولايات المتحدة نهاية سنوات الثمانينيات، تفتّحت عيناي هناك على سلوك واضح كان يبدو عادياً ويومياً وشائعاً بين الجميع، رجالاً ونساء، يمارسونه بحرية وأريحية ومتعة ظاهرة، إنه المشي أو الجري في الطرقات الظليلة والمشجّرة، وفي الغابات والمنتزهات الوطنية، كان هذا السلوك يبدو لنا ظاهرة جديدة بدأنا نعتادها فيما بعد، بفضل تلك الأسفار والقراءات في الصحة، وبفضل برامج الحكومة واهتمامها بإحلال عادات صحية، وتجهيز ممرات للمشي في معظم الحدائق العامة. وفي أسفاري الأخيرة التي صادف أن كانت في فصل الشتاء القارس في أوروبا، ظننت أن هذه الرياضة ستتراجع في شوارع هذه المدن الغارقة في الصقيع، فالبرد لا يطاق هناك، لكن الحقيقة أن الشمس تبزغ بين الغيوم دائماً حتى في الشتاءات القاسية، وهناك همة عالية عند المشائين للانطلاق في الطرقات الخارجية بأحذية من ريح عند أول فرصة! هذا الحرص على ممارسة المشي ليس أمراً طارئاً أو متكلفاً هناك، إنهم يقومون به كفعل حياتي ضروري، يتعلمونه من أهلهم وأسرهم ومجمّعاتهم الحياتية، فالمشي هناك فلسفة (ظهرت جماعات من الفلاسفة في اليونان أطلق عليهم المشاؤون)، لذا فالمشي حضارة قائمة بذاتها! ريبيكا سولنت كاتبة أميركية شهيرة، تكتب في التاريخ الأميركي وتتبع سير الحياة والجغرافيا البشرية عبر التاريخ، كتبت في العام 2000 كتاباً بعنوان (متعة التجوّل: تاريخ المشي) تحدثت فيه عن المشي في الطبيعة، وعن أشهر المشائين وتأثير المشي في إنتاج أدبهم، هذه الرياضة التي ننظر لها نظرة لا مبالية، ولا نوليها العناية المطلوبة مثل بقية شعوب الأرض. تقول ريبيكا: إن هذا السلوك قد أفرز على امتداد التاريخ الإنساني أدباً رائعاً كتبه أمثال: هنري جيمس، غوته، توماس مان، فيرجينيا وولف، ويتمان، وهمنغواي. جميع هؤلاء - تقول - كانوا مشّائين من الطراز الرفيع. لدرجة أن بعضهم كانوا يميلون للمشي لمسافات طويلة، جعلتهم يعبرون البلدان سيراً على أقدامهم، ويكتبون الكتب التي تتحدث عن أسفارهم. وقد أكدت في كتابها أن الفراعنة اخترعوا أقدم وسائل في التاريخ للمساعدة على المشي بصنعهم «الأصابع الصناعية»، التي تساعد من فقد أحد أصابعه على المشي أكثر من كونها أسلوب تجميل!