حينما أتهجّى قصيدتي بعد فراغها مني أتكاثر فيّ، وأتجاوزني وأنحاز إلى كلي.. ثمة كتابات تصدقك كلما كذبتَ ذاتك، هكذا هي القصيدة حيثما اتخذتها هويّة أينما كتبت وأينما حضرت، ربما لأنها الرفيق اليومي، أو شقيقة الحلم الطفولي القديم أو حتى أم أيامي.. إنها أقرب إليَّ من الظل الذي يرافقني بذنب وقوع الضوء عليّ.. لطالما شعرتُ أنها نافذة تطل منها طقوس غرفتي النائمة في الدخانِ خلسة، ويغتابني فيها عمود الإضاءة المحاذي لجدار جارتي، كلما ردّتِ السلام عليّ أشجارها الآيلة للبرد.. كنتُ فيها الأمس المتوثّب للعمر دائما، واليوم المؤتمن فيه عليه، والغد الذي لاينتظره الناس بعدي..! هي خطواتٌ وكدماتٌ من اللوم والحب والحنين وسخرية الموت هكذا أنظر إليها حينما أرى صغار الحروف فيها تهرول في شوارع الصفحات النافرة من القيد، والمتوثبة دائما للغيب.. إنها تميمة عهدي وتقوى حقيقتي حتى وهي لا تؤمن بصلاح الشعراء، ولا حقيقة أنهم يعترفون بما يقترفون ولا حتى بما توارثته الأجيال منهم، تنتقم على الصمت الذي يصاحبها حين تنقلب عليه ولا تكون إلا به حينما لا تعرّفه كلما سُئلت عنه..! قد تبدو لغيري فراغ نصف الكأس، لكنني سأدّعي أنني نازعتُ الهواء نصفه الآخر، وقد يراها آخر تأويل الفوضى حينما لا أدّعي أنها فوضى التأويل.. وربما وجد فيها ثالثٌ بعض حقيقته المسكوت عنها فتأفّف منها وتوارى فيها.. هي سنبلة تاريخي حيث لا ترتادها إلا عصافير الحقول المسالمة ولا تنتظر الحصاد إلا ممزوجا بعرق الفلاح وهبات الريح وجوع الأطفال الصغار.. سأحلم لو أنها تكون يوما خبز الأرواح أو تعويذة الحكاية أو مدينة يزورها الشجن في كل ليلة أو حتى حنين عصفور غريب لريشة تركها في عشه القديم وغادر.. قصيدتي التي لا أعرفها قبل أن ألتقيها ولا أستكشفها حتى أحياها، ولا أحياها قبل أن تدعوني لها هي تلك المعلقة على أستار قلبي.. متمددة في سرير يومي.. ومسافرة دائما في غدي.. هي ليست آخر المباح فيّ لكنها أعذبه وأكثره تعقيدًا..