"الحداثة" في السعودية، من الحكايات التي بقدر ما تَعدد رواتها بقدر ما اختلفوا. مرةً حول من هو الأحق بروايتها. وأخرى حول من هو الأكثر تمثلاً لروحها و"نضالها". وحداثة الثمانينيات، تحديداً، هي التي لا تزال تُروى لليوم، إما سلباً أو إيجاباً. وكما أن هناك من كلّف نفسه الدفاع عن تلك المرحلة، وعن شخوصها وآثارها. فإن هناك أيضًا من "جاهد"، بزعمه، من أجل "فضح" رموزها وممارساتها. فكيف يجب أن تُحكى تلك الفترة، كسيرة ذاتية أم كعمل روائي أم كبحث منهجي. وماذا بقي من تلك الفترة، بكل جموحها وصراعاتها. ماذا بقي منها للكبير الذي عاصرها. وماذا بقي لها في ذهن الصغير الذي شهد بقايا تجاذباتها؟.. أسئلة على الرغم من تكرارها، وتنوع إجاباتها إلا أنه لا يمكن تجاهلها، وتجاهل أوجهها المختلفة. فـ"قراءة الماضي، هي الطريقة المثلى لكتابة المستقبل". نشوة الحداثة في لقاء تلفزيوني، مع أحد روّاد تلك الفترة، يصف الأكاديمي والصحافي، عثمان الصيني، تلك المرحلة بأنها مرحلة توهج وحراك أدبي وثقافي، طموح ومميز. فالنشوة الثقافية كانت تملأ شباب تلك الفترة، مما انعكس، بالضرورة، على الملاحق الصحافية الثقافية، حينها، وعلى طبيعة النصوص الإبداعية التي كانت تُغذي تلك الصفحات بكل ما هو جديد وحديث. وهذا ما يؤكده عبد الله الزيد، الشاعر والإعلامي، في حواره مع صحيفة الحياة (2011) إذ يصف ذلك الجيل بأنه جيل ثقافي وإبداعي حقيقي، أسس لمرحلة مهمة - خصوصاً في الشعر والنقد كما بشر، بجملة من التحولات والنقلات النوعية. وهذا، برأي الزيد، ما أثار حفيظة العاجزين والقاعدين الذين يمثلون أدوار المثقفين وليسوا بمثقفين.ولكن ثقافة هذا الجيل ونشوته المميزة لم تمنع المناوشات والخلافات، بين أصدقاء الأمس. لدرجة الإعلان عن "سقوط" حداثة الثمانينيات في مراحل كثيرة، من قبل الكثير من نقادها. وبحسب بعض معاصري تلك الفترة فهذه الخلافات ليست بالجديدة. إذ إن بذور الخلاف كانت منذ بدايات الركض الصحافي والأدبي. حيث يتفق كثير من المعنيين، أن هذه الحداثة كانت ذات طابع أدبي، في مجملها. وكان لشعر التفعيلة، تحديدا، ونُقاده نصيب الأسد من هذا الحراك بينما تأخرت الكثير من الفنون الأخرى كالرواية والقصة والتشكيل، عن ركب هذا الأجواء. النقد "الأكاديمي" النقد الأكاديمي و"مجاملاته" و"صراعاته"، يتحمَّل العبء الأكبر من تبعات، ما يعتبره البعض، إخفاقا داخليا وبنيويا لـ "حداثة" الثمانينيات. إضافة لدور التيار "المتشدد" (الصحوة) وما أثاره من استعداء حكومي وشعبي، وصل لدرجة منع الصحف والمجلات، في تلك الفترة، من ذكر لفظة "حداثة". كل ذلك بعد شريط الحداثة، وكتاب الشيخ عوض القرني، "الحداثة في ميزان الإسلام"، الذي يُعتبر من أبرز العوامل الخارجية لهذا "الإخفاق"، أو "الانحسار" كما يفضّل البعض وصفه. كتاب الدكتور عبد الله الغذامي، حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية (2008) من الكتب التي تناولت تلك الفترة. وكانت المآخذ على هذا الكتاب، من قبل أصدقاء الأمس، أكبر من مآخذ أضداد الأمس واليوم. أما السبب، بحسب الكثيرين، فهو أن هذا الكتاب لم يكن سوى سيرة "تمجيدية" لذات الغذامي. وهذا ما لا يثبته ولا ينفيه الغذامي عن نفسه حين يقول: "سأروي حكايتي من الآن فصاعداً…، وسأروي ما جرى لي وما جرى حولي. ولتكن سيرة ذاتية، وإن كنتُ أراها سيرة أفكار وليست سيرة شخص، ولكن هل هناك من فرق"؟! اللافت، أن الدكتور الغذامي، بسؤاله الاستنكاري المفتوح، لا يرى فرقًا بن سيرة الأفكار وسيرة الشخص. وهو هنا، لا يرى ذلك بصيغة تقريرية مباشرة، ولكن بصيغة "سؤال" مفتوح، يسهل إنكاره، إذا ما لزم الأمر. ولعلّ هذا، بحسب البعض، يُلخّص الكثير من إشكالات نقاد تلك الفترة، "الأكاديميين" منهم تحديداً. فالصرامة المنهجية لا تمنع الخلط بين الفكرة والشخص، عند الرغبة في الإطراء، ثم يكون السؤال المفتوح مخرجًا سريعًا لأي ضائقة نقدية منهجية محتمَلة. وفي مقابل هذه الصرامة النقدية المجامِلة أو"الشعبوية" برأي بعض المثقفين، التي افتقدت، بسبب إفراطها الأكاديمي، الكثير من اللمسات النقدية الإبداعية. كان هناك شعراء حداثة الثمانينيات، وأدباؤها، الأكثر "رهافة" ونخبوية. حيث "الغياب" كان وما يزال من نصيب شعراء تلك الفترة ونصوصهم، كالمشري والثبيتي والدميني. مقارنة باستمرار حضور وبروز النقاد، كالغذامي والبازعي والشدوي والسريحي وغيرهم، مع استمرار مناوشاتهم "الصحافية" لهذا اليوم. وعاء القوميّة وبالعودة إلى أسباب هذا الغياب والحضور، أو تفاوته. فإن السبب الذي لم يتم تناوله بشكل تحليلي أكبر، بزعم البعض، رغم أهميته، هو "البعد السياسي" لـ حداثة الثمانينيات. وذلك مع وجود الكثير من الشواهد التي تدعو لضرورة إعادة قراءة المشهد وفقًا لهذا البعد، خصوصا بعد أحداث ما سمي بـ "الربيع العربي" وما كشفه من توجهات "سياسية" أو "ثورية" واضحة، بل ومعلَنة لمن كانوا مع الحداثة ولمن كانوا ضدها أيضا. التأثر بالمد القومي سياسيًا، كما روّج لذلك الكثير من الإسلاميين، بمن فيهم عوض القرني، والدكتور سعيد الغامدي، في معرض الهجوم على حداثة الثمانينيات، تبنّاه بعض المثقفين أيضاً، كما لم ينكره بعض رموز تلك الفترة. فعبد الله الزيد، مثلاً، وفي معرض إجاباته عن تساؤلات حضور ندوة "سقوط حداثة الثمانينيات" التي أقامها نادي الرياض الأدبي يشير إلى أن "الحداثة" كانت وعاء للمشروع "القومي"، وفشل المشروع كان من أسباب تراجع الحداثة (صحيفة الوطن 2007). هذا البعد السياسي لم يقتصر على رواد "حداثة الثمانينيات". بل ارتبط أيضاً برواد "الأدب الإسلامي" من "الإسلاميين" الذين ناصبوا "الحداثة" العداء واتهموها بالكفر و"التسيس". فقد كان جزءا كبيرا من عدائهم وحراكهم، بحسب بعض المراقبين، يهدف إلى استقطاب الشباب، في تلك الفترة، أدبياً وفكرياً، لمشروعهم السياسي "الإخواني" الذي اتضحت ملامحه أكثر بعد أحداث "الربيع العربي". وكانت صحيفتنا هذه، قد أثارت موضوع "الأدب الإسلامي" وعلاقته بجماعة الإخوان المسلمين في عدد سابق - الثامن من كانون الثاني ( يناير) 2014. شهادات حداثية عبد الله الصيخان، من الشعراء الذين ارتبط اسمهم كثيراً بتلك الفترة. وعند سؤال "الاقتصادية الثقافية" عما إذا كانت الحداثة وعاءً لمشروع قومي، أجاب الصيخان: أبداً لم تكن كذلك. هذه إعادة إنتاج لتهمة عوض القرني في كتابه حين أشار إلى الدعوات التي تلقاها الشباب آنذاك للمشاركة في مهرجان المربد في دوراته المتتالية وقبلها الدعوات إلى مهرجان الأمة للشعراء الشباب 1984 وبنى على ذلك قوميتنا الموهومة. ثم يمضي الصيخان موضحًا وجهة نظره "الحداثة (في نظري على الأقل وفيما كتبته) نأت بنفسها عن إلى الانتماء لتيار معين. نعم كنا نحضر المربد ولكن لن تجد قصيدة لشاعر سعودي شاب تؤيد ما كان يحدث في العراق". ويضيف: "لا تقل لي صدام لم يكن يمثل القومية الحقّة، سأقول إنه كذلك في نظر الآخرين على الأقل". أما حقيقة تلك الحداثة برأي الصيخان فهي أنها غرّبت على يد بعض نقادها وشُوهت على يد مناوئيها" حداثة الثمانينيات مرحلة من مراحل الوعي في تاريخ المجتمع بتنوع تياراته وأفكاره لكنها جوبهت بحركة "تكفيرية" تَبيّن، لاحقًا، أنها لم تكن إلا "إخوانية". وعن "المحاسن" التي لم تخلُ منها تلك المرحلة، يقول الصيخان: "من محاسن ذلك الحراك الأدبي الذي دار بين الحداثة والتيار التقليدي في الثمانينيات أن أنتج جيلا، بل أجيالا لا تنتمي، فكرا ومنتجا أدبيا، إلى أي من الفريقين؛ أخذ بأدب، من كل طرف، ومضى ليصنع ملامحه الخاصة. ولاستجلاء هذه "الملامح الخاصة" بهذا الجيل، يتحدث لـ "الاقتصادية الثقافية" أحد هؤلاء الشباب، الذين تأثروا بشيء من تلك المرحلة، يمينًا ويسارًا، بكل ما فيها من مشادات ومجاذبات. الكاتب والمدوّن عبدالإله القحطاني فيقول: "كنت طرفًا في تلك النزاعات لدرجة أن مواضيعها وحواراتها ما تزال لليوم عالقة برأسي وكأنها نوقشت البارحة، بدءًا من حلم الدولة الإسلامية وحرب أفغانستان، وانتهاء بالحرب على العلمانيين والحداثيين". ويضيف القحطاني: "رغم حداثة سني في تلك الفترة إلا أنني، كنت طرفًا فاعلاً في تلك الصراعات لدرجة أنني كنت أوزع بعض المنشورات التي تُحذّر من الحداثيين والتغريبيين، إرضاء لبعض الأقارب، بينما كنت في الخفاء أتلذذ بنصوص أحد رواد الحداثة في ذلك الوقت، عبدالعزيز مشري". ويتابع: "مرّت الأيام، وتقدم بي العمر أكثر، وبدأت أطالع باهتمام، مؤلفات غازي القصيبي، يرحمه الله، الرجل الذي لطالما سمعت وقرأت عنه الكثير من التشنيع. وهنا أذكر كتاب "حتى لا تكون فتنة" وهو عبارة عن مجموعة رسائل، ثلاث منها إلى مشايخ الصحوة الإسلامية، ناصر العمر، عائض القرني، سلمان العودة، والبقية إلى عموم الناس الذي كان له بالغ الأثر الفكري في مسيرة حياتي المقبلة. كما كان له، مع مجمل أعمال القصيبي، الفضل في إعادة صياغة كثير من مفاهيمي، تجاه الأمة والوطن". تظل حكايا "الحداثة" في السعودية وأيقوناتها مفصلاً مهماً في فهم هوية الحراك الثقافي السعودي، الذي لا يزال مشهده حيوياً قادراً على خلق قضاياه، سواء في خلق سياقات قضايا جديدة، أو من خلال سياقاته القديمة المتجددة.