واحد من أشهر المزارات السياحية في العالم، كما لو أنه لم يزر تونس المسافر الذي فاتته زيارة تلك القرية المقيمة على رأس جبل، ليس فيه من معالم السياحة المعاصرة شيء يُذكر.العرب فاروق يوسف [نُشر في 2017/03/19، العدد: 10576، ص(10)]سيدي بوسعيد جنة الرسامين في أوهامهم لندن - بعد منازل الرومان في قرطاج المتعالية في طرازها على المرء أن يستعد لرؤية منازل التونسيين المترفعة بجمالها الأخاذ والآسر ولكن الأخويّ. ربما على المرء أن ينسى أسطورة الزيارة التاريخية التي قام بها الرسامون بول كيلي وأوغست ماكي ولويس ماييه من أجل أن يروا سيدي بوسعيد على حقيقتها. يكمن السبب في أن خيال المدينة لا يزال عصيّا على خيال الرسم. كتب بول كيلي عام 1914 “لقد وصلنا إلى شاطئ قريب من العرب الأوائل. وهناك قابلتنا الشمس الساطعة التي تغشى الأبصار وكان الجو صافي الألوان يثير في النفس أجمل الوعود”. لقد اكتشف الرسام السويسري النور هناك. ما يفعله المرء وهو يتسلق الجبل الذي يطل على قرطاج الرومانية هو تعبير جسدي عن فكرة كيلي المجازية. هناك يحدث الامتزاج بالنور تدريجيا.الجبل يبدو بمثابة الحصن الذي هو خط الدفاع الأول عن قرطاج الرومانية ومن ثم عن تونس. تحول اسمه من جبل المرسى إلى جبل المنار ليستقر عام 1893 على التسمية الحالية تخليدا لأبي سعيد خلف بن يحيى التميمي الباجي (1156/1231) الزاهد الذي وهب نفسه للتأمل والتمارين الروحية بعد أن تلقى دروسه في جامع الزيتونة بتونس قال لي نزار وهو سائقنا التونسي “أستاذ امش في تلك السوق الصغيرة. بعدها ستجد إلى يمينك شارعا. من هناك تبدأ سيدي بوسعيد” كنت أظنه بسبب ما رأيت من بضائع السوق قد قادني إلى الجزء السياحي من المدينة. ولكنني اكتشفت بعد ثوان أن المدينة كلها كانت هناك. لقد توهّم الكثيرون أن كيلي ورفيقا رحلته قد رسما روح المدينة وهو ما قلب المعادلات في تجاربهم الفنية وأحدث تأثيرا عظيما في تاريخ الفن الحديث في القرن العشرين. غير أن الحقيقة ليست كذلك. لقد رسم الثلاثة ما شاهدوه فعلا. ما يراه المرء مباشرة هو شيء أقرب إلى الإلهام. يتسلق المرء الجبل وهو على يقين من أن ما يفلت من حواسه هو أكثر مما تتمكن من احتوائه تلك الحواس. “الجمال كثير” جملة تُقال باعتبارها ذريعة للكسل. يشعر الزائر بعجزه عن رؤية كل شيء. الجمال أكبر من الرغبة في اختزاله بالرغم من أن مفرداته في سيدي بوسعيد قليلة. جمال كثير بمفردات قليلة. جبل وبحر وبيوت بيضاء بنوافذ وأبواب زرقاء وأزقة ضيقة ومقاه، كل واحدة منها هي بمثابة ملاذ للهدوء والراحة والترف. بعيني زاهد تنظر إلى البحر قبل أبي سعيد خلف بن يحيى التميمي الباجي (1156/1231) كان ذلك الجبل بمثابة الحصن الذي هو خط الدفاع الأول عن قرطاج الرومانية ومن ثم عن تونس. تحول اسمه من جبل المرسى إلى جبل المنار ليستقر عام 1893 على التسمية الحالية تخليدا للرجل الزاهد الذي وهب نفسه للتأمل والتمارين الروحية بعد أن تلقى دروسه في جامع الزيتونة بتونس وقرر أن يتفرغ لخلوته في ذلك المكان النائي. هناك التف حوله مريدو الصوفية وكان في مقدمتهم أبوالحسن الشاذلي الولي المشهور بـ"سيدي بلحسن". غير أن ذلك المكان لم يكن ليجتذب إلا الراغبين في التأمل فوجد عدد من الزاهدين بالحياة ملجأً لهم فيه مثلما فعل سيدي الظريف وسيدي بوفارس وسيدي الشبعان.الجمال هو كلمة السر في بداية القرن الثامن عشر بنى حسين باي جامع الزاوية الذي شمل ضريح أبي سعيد. بعده بنى محمود باي مسكنا قرب مسجد الزاوية وهو ما شجع عددا من أبناء العاصمة على بناء بيوت صيفية على سفوح الجبل. غير أن فكرة العيش المسلّي صيفا لم تؤثر سلبا على ما تميز به الجبل من صفات أضفى عليها الورع الديني طابع التأمل. لذلك كانت الاحتفالات المرحة التي تشهدها القرية والتي تسمى بـ”الخرجة” ذات طابع صوفي. القرية التي لا تزال صغيرة بالرغم من شهرتها لن يكون في إمكانها سوى أن تتسع لخمسة آلاف هم سكانها الأصليون الذين هم من سلالات المتأملين الأوائل الذين فضلوا العيش في الهامش الريفي على الاستجابة لمغريات الحياة المدنية التي كانت تونس العاصمة من أوائل المدن العربية التي تآلفت مع أساليبها وصاغت قوانينها. لا يصل المرء إلى سيدي بوسعيد بعد فراغ معماري غير أنه يشعر حين يصل إليها بأنه قد انقطع عن العالم. علينا أن نصدق أننا نلج أبواب حديقة لا تنتمي إلى ما سبقها من البلدان. لا تمهد قرطاج لسيدي بوسعيد وهي لا تمتّ بصلة إلى تونس. زهدها لا يزال عنوان رفعتها وعدم إقبالها على الحياة المدنية اللاهية. سيدي بوسعيد هو واحد من أشهر المزارات السياحية في العالم. كما لو أنه لم يزر تونس المسافر الذي فاتته زيارة تلك القرية المقيمة على رأس جبل، ليس فيه من معالم السياحة المعاصرة شيء يُذكر. الجمال هو كلمة السر غامض شأنها مع السياحة المعاصرة. كان من الممكن بيسر أن يدير لها العالم ظهره مثلما أدارت هي ظهرها للعالم بزهد أوليائها الصالحين. غير أن ما لا ترغب فيه تلك القرية الطاعنة في تقشّفها حدث لها بطريقة جعلتها لا تهنأ براحة البال. شوارعها المرصوفة بالحجر صارت ناعمة من كثرة الخطوات التي وقعت عليها. وهي خطوات المتأملين القادمين من مختلف أنحاء العالم بحثا عن المعجزة التي صنعت من قرية نائمة مزارا.سيدي بوسعيد تُرسم واقعيا كما لو أنها تُستخرج من حلم المفارقة تكمن في أن لا أحد من زوار تلك القرية يفكر في أن يلقي نظرة على ضريح أبي سعيد الباجي الرجل الذي وهب المكان اسمه وقبله قوته التأملية. كما في حياته فإنه في موته بقي زاهدا في رؤية ما لا يحب. وهي صفة انتقلت إلى المكان مثل عدوى. في سيدي بوسعيد لا يرى المرء إلا ما يحبّ. وهنا تكمن كلمة السر التي يمتحن السحر من خلاله وجوده في تلك القرية الساحلية. الجمال هو كلمة السر تلك. قبل ربع قرن رأيت معرضا للفنان التونسي رفيق الكامل في قاعة فنية بسيدي بوسعيد. كان الرسام يومها قد رسم مشاهد مستلهمة من جولاته بين أزقة تلك القرية. لقد عرفت الكامل باعتباره فنانا تجريديا لذلك شعرت بالإحباط حين رأيت ذلك المعرض مستجيبا لسطحية استنتاج أبله مفاده أن الرسام فعل ذلك مدفوعا بغايات تجارية. كان ذلك الاستنتاج خاطئا بسبب عدم امتزاجي بالسحر الذي يمارسه المكان. وهو سحر يفوق قدرة الرائي على السيطرة على حواسه. سيدي بوسعيد يمكن أن ترسم في أيّ لحظة بطريقة مختلفة. التونسي في سحره هي ليست بالمكان الصامت بالرغم من أنها لا تكترث بمَن ينظر إليها. لقد سعى رفيق الكامل أن يُرينا بعين تونسية ما كانت عينا بول كيلي قد أغفلتا النظر إليه. لربما حدث سوء الفهم بسبب العمى السياحي الذي لا يفرّق بين الحقيقة والوهم هو ما دفعني إلى عدم رؤية رسوم رفيق الكامل عل حقيقتها. حين تسلقت هذه المرة الجبل كنت أستعيد تلك الرسوم التي حرمت نفسي من رؤيتها. كان هناك معنى عميق لمحاولة أن يكون الناظر هذه المرة تونسيا. وهو معنى ينطوي على الكثير من الحقائق التي لم يلتفت إليها بول كيلي وسواه من الرسامين الأوروبيين الذين سبقوه إلى تونس مثل هنري ماتيس وفاسيلي كاندنسكي اللذين تأثر بهما وحاول أن يقتفي أثرهما. مشيت هذه المرة في أزقة سيدي بوسعيد كمَن يعتذر. لمَ لا يكون رفيق الكامل وهو تونسي واحدا من زوار تلك القرية الساحرة؟ ألأنه تونسي ينبغي علينا أن نحرمه من نعمة الوصول إلى سحرها الذي تعبّر عنه مفردات المكان؟ تُرسم سيدي بوسعيد واقعيا كما لو أنها تُستخرج من حلم. تلك هي معادلتها التي تشبه المعجزة. ما من سبب للسياحة في المكان الأكثر جذبا للسياح. ألا يستحق الوهم أن يُرسم.