على الرغم من اشتهار مدينة الموصل بإنجابها ألمع عسكريي العراق، قادة وآمرين وضباطا، في العصر الحديث، فإنها قدمت أيضا خيرة العلماء والمفكرين والأدباء والفنانين.العرب حميد سعيد [نُشر في 2017/03/18، العدد: 10575، ص(16)] لم أفاجأ بالحملة الواسعة من تبرعات أبناء مدينة الموصل بمكتباتهم الخاصة العامرة منها والمتواضعة، بجميع ما تضم هذه المكتبات من كتب ودوريات وموسوعات ومخطوطات إلى مكتبة جامعة الموصل التي أحرقت على أيدي مجرمي داعش. وإن شارك في هذه الحملة مواطنون من بغداد ومحافظات أخرى، لكن مشاركتهم كانت أقل زخما من مشاركات الموصليين بسبب ظروف سياسية وأمنية مربكة. لقد تعرضت محافظة نينوى إلى حجم من الأذى والضرر ما لم تتعرض له محافظة أخرى، إذ طال أبنيتها وحقولها وإنسانها وامتد إلى شواخص تاريخها العريق وإلى دور العلم والعبادة فيها، ونال من مكتباتها العامة والخاصة بما تضم من مخطوطات فريدة ونادرة. وإذ قلت لم أفاجأ، فذلك آتٍ من معرفتي بالتكوين الحضاري للإنسان في هذه المدينة ومدى حبه لها، هذا الحب الذي اشتهر به الموصليون في علاقتهم بمدينتهم حتى صار مضرب المثل. ولست محتاجا إلى الوقوف عند التاريخ الحضاري لهذه المدينة العريقة، ابتداءً من نينوى الآشورية حتى بدايات القرن العشرين، فهذا التاريخ الحضاري معروف وما كُتب عنه كثير. ولكنني أقف عند إنسانها الحضاري الذي عرفته وعملت معه وتعلمت منه، وأبدأ بجامعتها التي ظلت منذ تأسيسها حتى الاحتلال الأميركي-الإيراني ليس من أهم جامعات العراق فحسب، بل كانت مؤسسة أكاديمية شامخة تتقدم في منجزاتها العلمية على الكثير من مثيلاتها في المحيطين العربي والإقليمي، وكنت لا أتأخر عن تلبية أي دعوة كريمة توجه إليّ للمشاركة في واحدٍ من نشاطاتها الفكرية والأدبية. وكان اتحاد الكتاب والأدباء فيها من أنشط الاتحادات في المحافظات وأكثرها تنظيما وحرصا على المستوى الفكري والإبداعي لأعضائه. أما مكتباتها العامة، ومنها مكتبة جامعتها، فقد كانت تضم من المراجع ما يسدّ حاجات الباحثين والأكاديميين، وكنا نجد فيها ما لا نجده في مكتبات بغداد، أحيانا، وكذلك هي مكتبات أسرها العريقة ومبدعيها وأكاديمييها، وأذكر يوما أني كنت محتاجا إلى كتاب “الأشربة” لأبي يوسف وهو أهم تلاميذ أبوحنيفة النعمان بن ثابت، فما وجدته في بغداد، واتصلت بصديقي د. نجمان ياسين وهو قاص فذ ومؤرخ لامع، أسأله عن الكتاب المذكور، وسرعان ما دعاني إلى الموصل وفيها رافقني إلى مكتبة خاصة، فوجدته بطبعة قديمة جدا، غير أن صاحب المكتبة اشترط عليَّ أن أطلع على ما أريد منه داخل غرفة المكتبة، وهذا ما فعلته يومئذٍ. ومما أذكره في هذا الشأن أن بدايات التعليم الابتدائي في مدارس البنات بمدينة الحلة اعتمدت على المعلمات الموصليات، وكذلك كان التمريض النسوي، ولم تختلف الحال كثيرا في عدد من مدن العراق. أما على صعيد الحياة الاجتماعية فإن الإنسان الموصلي عرف بنشاطه وحيويته، إذ ظلت أسواق الموصل تعتمد في الكثير مما تعرضه على الإنتاج المحلي الزراعي والصناعي، وتميزت شوارعها وأحياؤها وحاراتها وحدائقها ومنتدياتها والدوائر الرسمية فيها بالتنظيم والنظافة، وكذلك هي أسواقها وفنادقها ومطاعمها، كما تميز العامل والموظف بالنشاط والالتزام واحترام العمل والوظيفة. وعلى الرغم من اشتهار هذه المدينة بإنجابها ألمع عسكريي العراق، قادة وآمرين وضباطا، في العصر الحديث، فإنها قدمت أيضا خيرة العلماء والمفكرين والأدباء والفنانين، وسأذكر أمثلة منهم، إذ لو توسعنا في ذكرهم لاحتجنا إلى موسوعة ضخمة، من هؤلاء: محمود الجليلي وسالم الدملوجي في الطب، أحمد صالح العلي في التاريخ، عبدالجبار الجومرد وطارق عزيز وشاذل طاقة في الدبلوماسية ولكل منهم نشاطه الفكري المتميز، عبدالجبار شنشل ومحمود شيت خطاب في العلوم العسكرية، الملا عثمان الموصلي في الموسيقى، زها حديد في الهندسة، كوركيس عواد وسعيد الديوه جي وعبدالحق فاضل في الثقافة الموسوعية، نجيب يونس وراكان دبدوب في الرسم، مراد الداغستاني في التصوير ويوسف ذنون في الخط العربي. وأعترف بأنني تجاوزت أسماء علماء ومفكرين ومبدعين، لم يكونوا، في ما أنجزوا، دون من ذكرتهم. كاتب عراقيحميد سعيد