يحتل الفكاهي الجزائري الجذور فيلاغ Fellag مكانة فريدة في إطار الفنانين الكوميديين المعتادين الوقوف وحدهم فوق خشبات المسارح الباريسية، بهدف تقديم فقرات عادة ما تسخر من السياسة والفن والمواقف الاجتماعية على أنواعها. ويأتي الفارق الأساسي الذي يتميز به فيلاغ من كون الرجل يمتنع عن إثارة ضحك المتفرج على حساب فئة من الأشخاص تمثل أقلية في المجتمع، بل يسلط الضوء بلا تردد على عيوب الأكثرية من حقد وبخل وعنصرية وجبن، وذلك قبل أن يسعى إلى تقديم الدليل على كون الأكثرية المعنية وإذا كانت ملطخة بألف عيب وعيب تستحق بالرغم من كل شيء الشفقة، ولمَ لا بعض التفهم لما تحمله من مساوئ. ويعود فيلاغ راهناً إلى المسرح إثر غياب نحو ثلاث سنوات، مقدماً حتى التاسع من نيسان (أبريل) المقبل، على خشبة قاعة «رون بوان» الباريسية المرموقة الواقعة في ميدان الشانزلزيه، عرضه الساخر الجديد «بليد رانر» Bled Runner ، وهو اسم مقتبس من عنوان الفيلم الهوليوودي المشهور Blade Runner الذي أخرجه ريدلي سكوت في ثمانينات القرن العشرين، إلا أن كلمة «بليد» قد تحولت هنا لتحمل معنى «بلاد» باللغة العربية، مثلما سبق لفيلاغ في الماضي تقديم مسرحية أطلق عليها «جورجوراسيك بارك» تقليداً لفيلم الديناصورات المعروف «جوراسيك بارك». وفي «بليد رانر» يتعرض فيلاغ إلى الوضع الذي عاشه والده مثلاً حين قاتل خلال الحرب العالمية الثانية إلى جوار الحلفاء وبالتالي فرنسا، دفاعاً عنها ضد العدو النازي بأمل الحصول في المستقبل على مكافأة ليست أقل من الاستقلال الجزائري. إلا أن الأمر تأخر كثيراً بينما تلخص الشكر في بعض المال وفي كلمات تكريم موجهة إلى «العامل الأجنبي» تحية لدوره في مساندة قوات الحلفاء. ويتذكر فيلاغ بشيء من الاضطراب طفولته الجزائرية بخاصة اليوم الذي كان من المفروض فيه أن يرى للمرة الأولى في حياته فرقة من الجنود الفرنسيين وفوجئ بمشاهدة رجال ذوي بشرة سوداء قادمين من السنغال وحاملين تسمية «جنود فرنسيون». وإثر حصول الجزائر على استقلالها، تم تبديل حصص التاريخ في المدرسة التي كانت فرنسية أصلاً، بغيرها باللغة العربية الفصحى وفرها للتلاميذ أساتذة قدموا من مصر خصيصاً ينتمون جميعاً إلى جماعة «الإخوان المسلمين» في محاولة من الحكومة المصرية حينذاك لإبعاد هؤلاء عن الأراضي المحلية. أما اللغة الفصحى التي حلت فجأة مكان الفرنسية والعربية المحلية، فلم يفهمها التلاميذ. وعن الشباب الجزائري، يصفه فيلاغ بالصبور إلى درجة تتعدى الخيال، ذلك أن مجموعات الشبان تتكدس في الشوارع أمام الأسوار هنا وهناك دون أن يستطيع المرء إدراك ماذا تفعله وعن أي أمر تتحدث وماذا تبني من مشاريع سوى النظر إلى الفتيات المارات. ويتخيل الفنان الأسوار متعبة في نهاية النهار وتاركة مكانها لتخلد إلى النوم بينما يبقى الشباب في محله لا يتحرك. ويمضي المتفرج في عرض «بليد رانر» ساعة ونصف ساعة من المتعة الكاملة خارجاً من قاعة المسرح وقد فهم إلى درجة كبيرة أسباب الخلافات الجوهرية القائمة بين الجزائر وفرنسا وبالتالي بين الشرق والغرب، ومدركاً في الوقت ذاته استحالة العيش لأي من الطرفين دون الثاني. فهي حكاية محبة وعداوة ولكنها في نهاية المطاف أخوة مهما حدث وتميزت في أحيان معينة بعنف الجميع في غنى عنه. ويختم فيلاغ عرضه في عربة قطار تاركاً حقيبته مكانها من أجل أن يدخل عربة المطعم، فيُلقى القبض عليه بشبهة الإرهاب.