أيديولوجية روسيا بوتينالتأثير الروسي غرباًقنبلة حزبية موقوتة شهدت السنوات الخمس الماضية تطوراً نوعياً في علاقات موسكو مع أحزاب اليمين المتطرف بأوروبا، وباتت هذه العلاقات بمثابة حجز زاوية في التطبيقات العملية للأيديولوجية الجديدة التي اعتمدها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نهجا لسياسته الخارجية، بعد عودته إلى سدة الرئاسة عام 2012. وبمقتضى هذه السياسة يعمل بوتين على تحويل روسيا إلى مركز "مسيحي محافظ" عابر للحدود ومكمِّل لما يسمى "المشروع الأوراسي"، ويجد في اليمين الأوروبي عمقاً إستراتيجياً له. كما يرى فيه أداة للتأثير في سياسات الاتحاد الأوروبي الذي يمثل -من وجهة نظر الكرملين- حاجز الصد الرئيسي أمام طموحات بوتين الإمبراطورية، المغلفة بخليط من النزعة القومية السلافية المتشددة والصبغة الدينية (الأرثوذكسية) للدولة، والتي تحاول روسيا تعميمها -أو بمعنى آخر "تصديرها"- كنموذج لمواجهة القيم الليبرالية الأوروبية والغربية عموماً. أيديولوجية روسيا بوتينمنذ بداية فترته الرئاسية الثانية عام 2004 عمل بوتين على رسم وتثبيت أسس أيديولوجيته الجديدة انطلاقاً من إحياء الفكرة القومية الروسية ببعدها الأرثوذكسي، وإعطاء دور كبير للكنيسة تحت شعار "الدفاع عن القيم المسيحية ونقائها"."العلاقة الوطيدة بين موسكو والأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا والغرب عموماً، لا تقوم على تقاطع مصالح تكتيكية متبادلة أو نفعية ضيقة بل على قاعدة أيديولوجية متينة، أضلاعها ثلاثة: خطاب قومي شعبوي متطرف، والنزعة المسيحية المحافظة، والعداء للاتحاد الأوروبي " وذلك في تعارض مع تحذير بوتين -في خطاباته ومقابلاته الرسمية- من "خطورة تسييس الدين"، وتأكيده أن "الإسلام عنصر بارز في الكود الثقافي الروسي وجزء لا يتجزأ من التاريخ الروسي"، وأن "الوحدة القومية في روسيا ترسّخت بفضل الحوار الوثيق بين مختلف الثقافات والأديان، والمبنيّ على أساس قيم أخلاقية مشتركة". وبرز لاحقاً -في سياق تطبيق تلك الأيديولوجية- تنامي مشاعر العداء ضد المواطنين الروس من أصول عرقية غير سلافية، وضد المهاجرين من دول الاتحاد السوفياتي السابق. واجتاحت العاصمةَ موسكو والعديدَ من المدن الروسية الكبرى -في عامي 2012 و2013- صداماتٌ وأعمالُ عنفٍ بسبب توترات عرقية، ساهمت في إذكائها وسائل الإعلام الروسية بالتحريض على المواطنين من أصول قوقازية (مسلمي الجنوب الروسي). ومن ذلك تضخيم حوادث فردية مثل حادثة مقتل شاب روسي (سلافي) بموسكو (مايو/أيار 2014) واتهم فيها شاب أوزبكي، فضلاً عن التحريض على المهاجرين إلى روسيا من دول الاتحاد السوفياتي السابق لدوافع اقتصادية، والذين يشكل المسلمون نسبة كبيرة منهم. وفي خط موازٍ؛ عمل بوتين على إعادة رسم الخريطة الحزبية الروسية، بتحجيم دور القوى الليبرالية اليمينية المنفتحة على الغرب والقوى اليسارية على حد سواء، مع الإبقاء على هامش محدود للمعارضات المدجَّنة. وأهم هذه العينة من الأحزاب ثلاثة هي: "الحزب الليبرالي الديمقراطي الروسي" اليميني المتطرف بزعامة فلاديمير جيرينوفسكي، و"الحزب الشيوعي الروسي" بقيادة غينادي زيوغانوف، و"حزب روسيا العادلة" المصنف في خانة يسار الوسط ويرأسه سيرغي ميرنوف. وقد أدى هذا الأمر إلى منع قيام معارضة حقيقية لبوتين أو لحزبه الحاكم "حزب الوحدة الروسية"، وهو ما يمكّن بوتين وحزبه من المضي قدماً في تنفيذ أجندة أيديولوجيته الجديدة على صعيد السياستين الداخلية والخارجية لروسيا. ما سبق يؤكد أن العلاقة الوطيدة بين موسكو والأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا والغرب عموماً، لا تقوم على تقاطع مصالح تكتيكية متبادلة أو نفعية ضيقة بل على قاعدة أيديولوجية متينة، أضلاعها الرئيسية الثلاثة: خطاب قومي شعبوي متطرف ومعادٍ للأقليات والمهاجرين ويتجاوز الحدود الوطنية الضيقة، والنزعة الدينية المسيحية المحافظة، والعداء للاتحاد الأوروبي والسعي لتفكيكه. التأثير الروسي غرباًما الذي تريده روسيا؟ سؤال عريض بصيغة استنكارية طرحه الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في مقابلة له مع عدد من الصحف الأوروبية نُشرت يوم 6 مارس/آذار الجاري، وحذر فيها من أن موسكو "تستخدم كل الوسائل للتأثير على الرأي العام، حتى ولو أن الأيديولوجيا لم تعد هي ذاتها كما في الحقبة السوفياتية، إلا أنها أحياناً الوسائل ذاتها مع إضافة التكنولوجيا إليها"."تتبع روسيا أسلوبين متداخلين للتأثير على الرأي العام الأوروبي: الأول أسلوب مباشر بما تنشره وتروّج له وسائل الإعلام الروسية ووسائل التواصل الاجتماعي من أخبار ملفقة أو مضخمة، والقيام بعمليات قرصنة إلكترونية، أما الثاني فيتمثل في تمويل الحركات الشعبوية واليمينية المتطرفة " وأجاب هولاند ضمنياً -في المقابلة ذاتها- على السؤال الذي طرحه، حيث رأى أن الوسائل التي تستخدمها موسكو هي "إستراتيجية التأثير وبناء الشبكات، مع نشر طروحات محافظة جداً على صعيد السلوك الاجتماعي..، وكذلك ادعاء الدفاع عن المسيحية في وجه الإسلام". وفي المقابل؛ يتخذ اليمين الفرنسي مواقف تناقض ما صرح به الرئيس هولاند وحذر منه، حيث وصف مرشح اليمين فرانسوا فيون روسيا بأنها "شريك مصيري لأوروبا"، بينما قالت زعيمة حزب الجبهة الوطنية المتطرف ماري لوبان "إنّ الرئيس الروسي بوتين يدافع عن القيم الأوروبية بشكل كبير". وتلتقي تصريحات فيون ولوبان مع تصريحات قادة الأحزاب الشعبوية المتطرفة بدول أوروبية أخرى. المخاوف من التأثير الروسي السلبي على الانتخابات في البلدان الأوروبية لا تقتصر على فرنسا، فالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أكدت -في تصريح لها- أنها "لا تستطيع استبعاد التأثير الروسي على سير الانتخابات" العامة الألمانية المقررة في سبتمبر/أيلول القادم. وبدوره قال رئيس الوزراء السويدي ستيفان لوفين -في مؤتمر للدفاع- إنه لا يمكن استبعاد محاولة روسيا التأثير على الانتخابات السويدية عام 2018. إلا أن الاهتمام الروسي ينصب بشكل رئيسي على الانتخابات الفرنسية والألمانية، لكون فرنسا وألمانيا هما الدولتين المحوريتين سياسياً واقتصادياً في الاتحاد الأوروبي، ويرتبط مصيره بموقفهما منه. وتتبع روسيا أسلوبين متداخلين للتأثير على الرأي العام الأوروبي: الأول، أسلوب مباشر عبر ما تنشره وتروّج له وسائل الإعلام الروسية ووسائل التواصل الاجتماعي من أخبار ملفقة أو مضخمة، والقيام بعمليات قرصنة إلكترونية، كما وقع في الانتخابات الرئاسية الأميركية ضد مرشحة الحزب الديمقراطيهيلاري كلينتون. أما الأسلوب الثاني فيتمثل في تمويل الحركات الشعبوية واليمينية المتطرفة؛ فمثلا حصلت ماري لوبان عام 2014 على قرض بقيمة تسعة ملايين يورو من بنك مدعوم روسياً، وسبق لحزبها المتطرف الحصول عام 2011 على دعم مادي روسي من تحت الطاولة بتأسيس موقع "بروروسيا" الناطق بالفرنسية، وتكليف أعضاء في حزب لوبان بإدارته للدعاية لروسيا والرئيس بوتين شخصياً. قنبلة حزبية موقوتةتعوّل الأحزاب اليمينية الأوروبية على دعم روسي يصب لصالحها في الانتخابات، وارتفعت أسهم المراهنات بعد تحقيق أحزاب يمينية أو يسارية شعبوية مناصرة لموسكو إنجازات كبيرة في بعض دول شرق أوروبا والبلطيق (بلغاريا، سلوفاكيا، المجر، التشيك، إستونيا، مولدوفا)، ومن ثم فوز دونالد ترمب بالانتخابات الرئاسية الأميركية. وقد أكدت تقارير استخباراتية أميركية أن مجموعة من القراصنة الروس شنوا هجمات إلكترونية على حساب "الحزب الديمقراطي" وحساب مرشحته هيلاري كلينتون، واستولوا على بيانات ووثائق سرية وحساسة تتعلق بالحملة الانتخابية للمرشحة كلينتون وفترة عملها وزيرة للخارجية (2009-2013)، ونشر بعضها موقع "ويكيليكس" مما ساهم في قلب مزاج قطاع واسع من الناخبين الأميركيين ضدها."لم تتوقف وسائل الإعلام الروسية عن شن حملة إعلامية شرسة ضد المهاجرين في بلدان الاتحاد الأوروبي وتأجيج مشاعر الإسلاموفوبيا، ووقفت إلى جانبها الماكينات الإعلامية للأحزاب الشعوبية والقومية اليمينية المتطرفة لاسيما في ألمانيا وفرنسا" مرشح تيار الوسط في فرنسا إيمانويل ماكرون أعلن في 17 فبراير/شباط الماضي أن موقع حملته الانتخابية تعرض لهجمات إلكترونية متكررة، وندد بما أسماه "شائعات تشهيرية" بثتها ضده قناة "روسيا اليوم" ووكالة "سبوتنيك" الروسية للأنباء. وفي سياق متصل؛ اتهمت الحكومة الألمانية وسائل إعلام روسية بشن "حرب إعلامية" ضد ألمانيا، وعبّر مدير المخابرات الداخلية الألمانية هانس غيورغ ماسن عن قلقه من إمكانية أن تحاول روسيا التأثير على سير الانتخابات العامة المقبلة، عبر نشر أخبار مزيفة في وسائل الإعلام. وبالتدقيق ودون الاستطراد في إعطاء أمثلة أخرى على التدخلات والحملات الإعلامية الروسية في البلدان الأوروبية، يجب ألا نقلل من فاعلية الدور الذي تقوم به موسكو للتأثير على الرأي العام الأوروبي، وخطورة الأدوات التي تستخدمها في سبيل ذلك. فدعم موسكو للأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا (أيديولوجياً ومادياً وإعلامياً) من شأنه تقوية شوكة النزعات الشعبوية والقومية التي تشاطر روسيا العداء للقيم الليبرالية الغربية والاتحاد الأوروبي، في وقت يقف فيه الاتحاد أمام تحديات صعبة ولا تبدو مجتمعات دوله محصنة بما فيه الكفاية ضد الخطاب الإعلامي الشعبوي المدعوم روسياً. فقد قال مدير المخابرات الداخلية الألمانية إن "ترويج قصة عن اختطاف لاجئين لامرأة روسية واغتصابها في برلين العام الماضي، كان مثالاً على أسلوب روسيا في التأثير على الرأي العام"، وهو ما خلق حالة هستيرية بقيت ذيولها قائمة رغم افتضاح تلفيق القصة. وبالفعل لم تتوقف وسائل الإعلام الروسية عن شن حملة إعلامية شرسة ضد المهاجرين في بلدان الاتحاد الأوروبي وتأجيج مشاعر الإسلاموفوبيا، ووقفت إلى جانبها الماكينات الإعلامية للأحزاب الشعوبية والقومية اليمينية المتطرفة لاسيما في ألمانيا وفرنسا، وهذا ينطبق أيضاً على باقي الدول الأوروبية المستهدفة من روسيا. صورة توضح أن تحالف موسكو مع الأحزاب اليمينية الأوروبية المتطرفة أشبه ما يكون بزرع قنابل موقوتة، تهدد وحدة واستقرار المجتمعات الأوروبية ومستقبل الاتحاد الأوروبي، الذي تشكّل الإطاحة به بوابةً لنجاح مشروع بوتين الإمبراطوري المسمى "المشروع الأوراسي"؛ وهذا بالضبط ما تريده موسكو إجابة لسؤال الرئيس الفرنسي هولاند.