النسخة: الورقية - دولي من مفارقات العلاقات الدولية أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في العالم التي لم تتخذ حتى الآن موقفاً واضحاً ومحدداً من الأزمة السورية، فلا هي مع بقاء الأسد في الحكم ولا هي مع أي تدخل عسكري يهدف إلى إسقاطه، ولا هي مع دعم المعارضة المسلحة المعتدلة بالأسلحة المتميزة ولا هي بالمقابل مع القضاء على هذه المعارضة. ربما ما يفسر السلوك الأميركي هذا ما عبر عنه دويل مكمانوس في صحيفة «لوس أنجليس تايمز» قبل أكثر من شهر، حين وصف السلوك الأميركي حيال سورية بالقيادة من الخلف حيث تعقد الولايات المتحدة الاجتماعات وتنسق الجهود وتقدم المعلومات الاستخباراتية ولكنها تعتمد على الآخرين في الدعم العسكري وإدارة المعركة وفق حدود لا يمكن تجاوزها، لأن الهدف الأميركي الأساسي ليس إسقاط النظام السوري وإنما ترويضه والضغط عليه للقبول بحل سياسي حقيقي يؤدي إلى إنهاء الأزمة قبل أن تضرب جوارها الإقليمي. ليس هدف الولايات المتحدة إسقاط النظام بالطريقة التي حدثت في ليبيا ومصر وتونس، لأن اليوم التالي في سورية يختلف بتداعياته الداخلية والإقليمية عن المشهد السياسي والاجتماعي في تلك البلدان، وليس هدف الولايات المتحدة السماح ببقاء النظام والعودة بالأمور إلى ما كانت عليه قبل 13 آذار (مارس) 2011 فالواقع الداخلي في سورية والإقليمي والدولي لا يسمح بذلك. هدف الإدارة الأميركية أو ربما مجمل المؤسسات الأميركية الحاكمة استمرار المعارك في سورية طالما لم تصل نيرانها إلى الجوار الإقليمي المحتقن، ويمكن معالجة آثارها كما يجري الآن في العراق ولبنان، وربما إخراج القلمون من دائرة المعارك يهدف إلى عدم نقل الشرارة إلى الداخل اللبناني واستكمال الترتيبات السياسية مع قرب الاستحقاق الرئاسي في لبنان. استمرار المعارك فرصة تاريخية للولايات المتحدة وإسرائيل لن تتكرر، فهي تضعف من مكانة سورية الإستراتيجية وتستنزف إيران و «حزب الله»، كما أن الحدث السوري اليوم فرصة لن تعوض لاستكمال ملاحقة وضرب تنظيم «القاعدة» والأصولية الإسلامية في بقعة جغرافية واضحة المعالم وبأدوات غير أميركية. هنا يتميز الخطاب الأميركي عن كل الدول المعنية بالأزمة السورية بما فيها الدول الغربية. تقوم المقاربة الأميركية على الفصل الحاد بين الميدان والسياسة، أو نتائج المعارك العسكرية في سورية ونتائج مفاوضات السلام، وهنا تبدو مقولة كلاوزفيتز بأن الحرب امتداد للسياسة وإن بوسائل أخرى مقولة غير تاريخية بالنسبة إلى واشنطن في الحالة السورية، فهدف استمرار المعارك يتجاوز مسألة بقاء الأسد أو خروجه من السلطة. النتائج العسكرية لا يمكن أن تحدد النتائج السياسية (المبنى الفوقي ليس انعكاساً مباشراً للمبنى التحتي) كما يحلو للنظام وحلفائه الادعاء. لن تتدخل الولايات المتحدة عسكرياً في سورية ولن تسمح لحلفائها بذلك كما حدث في ليبيا، ولن تسمح بإيصال أسلحة متطورة للمعارضة المعتدلة وهو ما أعلنه صراحة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قبل أيام نقلاً عن جون كيري. هدف الولايات المتحدة إيجاد تسوية سياسية تحفظ الدولة ومؤسساتها وإن كان ذلك يسمح ببقاء بنية النظام، على أن تستكمل عملية بناء منظومة حكم جديدة في مراحل لاحقة من خلال عملية سياسية داخلية يشارك السوريون جميعاً فيها. * إعلامي وكاتب سوري