د. سعيد اللاوندي يبدو أن المشهد الانتخابي الرئاسي في فرنسا أصبح أكثر اضطراباً، وكلما اقتربنا من الجولة الأولى في نهاية شهر أبريل/نيسان القادم أو الجولة الثانية في 7مايو/أيار ازداد اضطراباً، خصوصاً أن استطلاعات الرأي تزيد النار اشتعالا، وتحصر السباق بين ثلاثة أفراد هم: إيمانويل ماكرون، مرشح الوسط ووزير الاقتصاد السابق في حكومة فرنسوا هولاند، ثم مارين لوبن، رئيسة حزب الجبهة اليميني المتطرف التي يقال عنها إنها الأكثر شعبية اليوم، ثم فرنسوا فيون، صاحب الفضيحة الشهيرة والمعروفة بالوظائف الوهمية التي خلقها باسم زوجته وولديه. الحقيقة أن استطلاعات الرأي غير ثابتة، فهي ترى أن أحدهم يتصدر الانتخابات هذا الأسبوع، ثم ترى أن غيره يتصدر المشهد في الأسبوع القادم، وهكذا دواليك، وهذا يدل على أن الناخب الفرنسي متقلب المزاج وصعب المراس.وأياً كان الأمر فإن أهم ما يميز هذه الانتخابات أنها خالية من المنافسات الحامية بين «الحيتان» الكبيرة والتي لها أكثر من تأثير عميق بين الناخبين، سواء من الحزب اليميني (عندما اعتذر نيكولا ساركوزي عن خوض هذه الانتخابات)، وكذلك فعل فرنسوا هولاند عن الحزب الاشتراكي... ولهذا ظهرت أسماء جديدة وصغيرة (أحدهم يبلغ من العمر 39 عاما فقط).ومما زاد هذه المنافسة احتداماً التصريح الذي أطلقه الرئيس فرنسوا هولاند وقال فيه: «لن أسمح بفوز مرشحة الجبهة اليمينية مارين لوبن وسأبذل قصارى جهدي في ألا تجلس على مقعد قصر الإليزيه!!».ولا شك أن هذا التصريح المنسوب لهولاند قد أشعل النيران، سواء في الحزب الاشتراكي ومرشح اليسار بنوا هامون، أو حزب الجبهة الذي يثق في أنه سوف يفوز هذه المرة، لأن حزب اليمين الذي يمثله فرنسوا فيون قد أثرت عليه فضيحة الوظائف الوهمية وتراجع في استطلاعات الرأي وخصوصا الاستطلاع التفاعلي الذي أجراه «معهد هاريس إنتر أكتيف». أياً كان الأمر ما زال الأمل يدغدغ مشاعر مارين لوبن، فعقدت مؤتمراً انتخابياً في مدينة ليون وتحدثت فيه عن برنامجها وما أسمته بالتزاماتها لاستعادة النظام في فرنسا، ومن أهمها:-تعزيز قوات الأمن بدرجة كبيرة بما يصل إلى 15 ألف شرطي إضافي.-الانسحاب من منطقة شينغن للحدود المفتوحة. -إعادة تداول العملة الفرنسية (الفرنك) بدلاً من اليورو. -بناء المزيد من السجون.- كبح الهجرة.-ترك القيادة الموحدة لحلف الناتو. ولا شك أن هذه الالتزامات هي الأبرز من بين 144 التزاماً، تعهدت بها لوبن، وأكدت أنها تمثل «الخيار الوطني»، لذلك وعدت بخروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي أو ما أطلقت عليه «فريك سيت»، ووعدت بأنها إذا فازت ستسعى على الفور إلى إصلاح شامل للاتحاد الأوروبي، يفضي إلى تقليصه لكيان تعاوني بين الدول دون عملة موحدة أو حدود مفتوحة، وفي حال رفض شركاء فرنسا في الاتحاد ستدعو لوبن إلى استفتاء للخروج من التكتل الأوروبي. والحق أن رجال السياسة أو بالأحرى النخبة السياسية الفرنسية لا تستبعد حدوث ما جرى في عام 2002 عندما صعد جان ماري لوبن مؤسس حزب الجبهة اليميني إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، فاصطف الجميع (يميناً ويساراً) خلف المرشح اليميني في ذاك الوقت جاك شيراك، بعدما ارتعدت فرائصهم خوفاً من أن يفوز لوبن بالرئاسة..أقول إن شيئا كهذا يمكن أن يحدث في حال ضعف كافة المرشحين ماكرون وفيون وهامون. وكان الاتحاد الأوروبي قد نظر بنصف عين إلى تحركات لوبن، فرفع البرلمان الأوروبي في 2 مارس/آذار الجاري الحصانة البرلمانية عنها، بسبب التحقيق في قضية تتضمن نشر صور لنماذج العنف، وكانت الشرطة الفرنسية قد رفعت شكوى ضدها عام 2015 بعد أن نشرت في مدونتها صور إعدام الصحفي الأمريكي جيمس فولي على يد إرهابيين من «داعش».أما عن الهجرة.. فحدث ولا حرج، فإن لوبن ترفع شعار فرنسا للفرنسيين، ولذلك ترى ضرورة عودة المهاجرين إلى بلادهم، فصرحت في جريدة «لوموند» الفرنسية بأنها في حال فوزها ستعمل على إقرار قانون تفرض بموجبه ضريبة جديدة على الجهات التي تقوم بتشغيل المهاجرين، مؤكدة أنها ستعمل على تطبيق برنامج الأولوية الوطنية في العمل، أي إعطاء الأولوية للفرنسيين في التوظيف. ولا بد من الإشارة إلى أن لوبن قد أثارت جدلاً واسعاً عندما وعدت بإلغاء التعليم المجاني، لأنه حسب رأيها لا يستفيد منه سوى أبناء المهاجرين.. وبهذه المناسبة تطالب الآباء بالمساهمة المادية في تعليم أبنائهم !!والحق إن أكثر ما يُقلق النخبة السياسية الأوروبية أن فرص فوز لوبن قائمة.. حيث اعتبر رئيس الحكومة الإسبانية، ماريانو راخوي، أن فوز مرشحة اليمين المتطرف بالرئاسة في فرنسا، شأنه شأن حزب البديل الألماني سيُعتبر «كارثة» تؤدي إلى تدمير أوروبا.وبالطبع ليس من مصلحة النخبة السياسية ليس في فرنسا فقط ولكن في ألمانيا وهولندا فوز زعيمة الجبهة الوطنية بالانتخابات الرئاسية في فرنسا. ثم هناك «فضيحة» أخرى بطلها هذه المرة إيمانويل ماكرون، ولكن على الشاطئ الجنوبي للمتوسط وتحديداً في الجزائر العربية عندما صرح هذا الرجل بأن فرنسا ارتكبت جرائم بربرية تصل إلى درجة جرائم ضد الإنسانية، واستهجن ماكرون رفض فرنسا تقديم الاعتذار، في إشارة إلى زيارة الرئيس ساركوزي للجزائر وتعمده ألا يعتذر باسم فرنسا عن جرائم الماضي في حرب استقلال الجزائر التي انتهت عملياً في عام 1962. وقد تعرض ماكرون لاتهامات عديدة بسبب هذا التصريح، خصوصا أن عمليات التعذيب التي قام بها الفرنسيون طوال ثماني سنوات من الحرب الأهلية في الجزائر، ما زالت تمثل نقطة خلاف حادة بين البلدين على جانبي المتوسط، لا سيما مع رفض الحكومة الفرنسية المزمن لفكرة الاعتذار. ولا شك أن تعليقات ماكرون قد أثارت ردود فعل غاضبة من منافسيه، كزعيمة اليمين المتطرف لوبن وفيون الذي شجب هذه التصريحات ووصف ماكرون بأنه كاره لتاريخ فرنسا!المعروف أن ماكرون من المؤيدين لبقاء فرنسا في الاتحاد الأوروبي، وكان أعرب عن سعادته لرؤية الأكاديميين والباحثين في بريطانيا وهم يفكرون في القدوم إلى فرنسا للعمل فيها بسبب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.وإذا علمنا أنه الأرجح ألا تفوز مارين لوبن بالرئاسة، لأن فرنسا تضم نحو 6 ملايين مهاجر وربما أكثر لن يصوتوا لصالح لوبن، لأنها ترفع شعارات مناهضة للأجانب.. وهذا يعني أن السباق قد ينحصر بين فرنسوا فيون وإيمانويل ماكرون ثم بنوا هامون الذي يجاهد من أجل استعادة شعبية اليسار..أياً كان الأمر قد يغفر الناخب الفرنسي لفرنسوا فيون خطأه الذي اعتذر عنه في أكثر من مناسبة والخاص بالوظائف الوهمية، وقد تكون الغلبة مقابل فشل الحزب الاشتراكي، وهذا ما جعل هولاند يعتذر عن عدم خوض هذه الانتخابات، لأنه يعرف أنه الرئيس الأقل شعبية في تاريخ فرنسا، كما تقول استطلاعات الرأي. *مدير مركز البحوث والدراسات الأورومتوسطية (القاهرة)