وقف صديقي اللبناني حائراً يفكر بعد إلقاء محاضرة طويلة ليسأل متى نعترف بالتخصص؟ فسألته من تقصد ب"نعترف"؟ فأجاب نحن العرب، ولكن طالما إننا في المملكة فليكن متى يعترف السعودي بالتخصص؟ فسأله صديقي الحاضر معنا بدافع الفضول: وما الذي دفعك لطرح هذا السؤال؟ فأجابه اللبناني بكل شفافية: ياأخي كل واحد بيحكي في كل تخصص، وكأن المعرفة وتداعياتها التطبيقية أصبحت في متناول اليد بمجرد الحديث عن موضوع ما. واستمر في حديثه: أعتقد أن البعض لا يعترف بالتخصص إلا عندما تصبح النتائج كارثية بالنسبة لمصلحته الشخصية. فعندما يشعر بالألم يعترف بتخصص الطبيب، وعندما يكون عليه توقيع عقد ما وربما يفقد فيه ثروته يعترف بمهنة المحامي. فرد عليه صاحبي ضاحكاً: لا، وأزيدك من الشعر بيتاً، نحن نقول"حط بينك وبين النار مطوع" تعرف ماذا يعني ذلك؟ فقال له اللبناني (وهو مسيحي): لا يا خيي شوبيعرفني؟ فقال له: هو اعتراف بتخصص الشريعة والفتوى خشية دخول النار. طبعاً هذا المشهد يتكرر كثيرا في دراما حياتنا اليومية، ولكن المزعج حقاً هو عندما لا تعترف مؤسساتنا بالتخصص. وربما الأكثر إزعاجاً هو عدم اعتراف بعض جامعاتنا بالتخصص الذي تدرسه لطلابها. أو حتى تتميز فيه. فهي تقدم الاستشارات مثلاً للمؤسسات الحكومية والخاصة ونجدها في الوقت نفسه تستعين بشركات خارجية قد يكون من يقدم الخدمة فيها أقل مستوى ممن لدى الجامعة من خبراء. وهناك جانب آخر للجامعات فهي تطرح تخصصات تلبية لاحتياجات المجتمع ولكن بطء البيروقراطية قد يجعل من هذه التخصصات عبئاً على المجتمع نفسه. وعندما تلجأ الجامعات إلى تعليق القبول في بعض التخصصات يكتشف المجتمع بعد فترة أن تعليق هذا التخصص لم يكن من القرارات الصائبة. ولعل تعليق تخصص المسرح وفنون الدراما في جامعة الملك سعود أحد تلك الامثلة التي لم يوجد معها تصنيف وظيفي للخريجين وبالتالي أصبح المسرح الآن مسرحاً لكل التخصصات. فكانت النتيجة مسرحيات هزيلة وشحاً واضحاً في فنون الأداء بين السعوديين وكأننا مجتمع لم يخرج بعد من عباءة المسرح التجريبي. أعتقد أن مسرحية عدم الاعتراف بالتخصص هي مسرحية هزلية نستمتع بها وقتياً ولكن ما هي نتائجها المستقبلية؟ ربما أن إسناد الأمر إلى غير أهله قد يحول الوظيفة إلى تأدية واجب فقط ولكن غيب فيها الإبداع وشغف التعلم والترقي في مجال التخصص. فهناك وظائف كثيرة لابد من وقفة مراجعة لها من المؤسسات التي تسند الأمر إلى غير أهله. فبسبب شح الوظائف العليا مثلاً يتم ترقية شخص مستحق للترقية عن طريق التحايل على النظام وليس تحوير الوظيفة للتناسب مع تخصص المرقى عليها. ولو تابعنا الترقيات في وزارة الثقافة والإعلام قبل تأسيس الهيئات المتخصصة للاذاعة والتليفزيون أو الإعلام المرئي ووكالة الأنباء لوجدنا ترقيات تمت من أجل الترقية فقط وبعدها يموت المبدع في وظيفته الجديدة. في المجتمعات الغربية على سبيل المثال هناك وقفات تخصصية لكل شخص بعد سنوات العمل بعد التخرج يطلق عليها "وقفة تغيير التخصص" عبر الالتحاق بالدورات والبرامج الأكاديمية التي تسمح بذلك. ولكن ماذا لدينا منها هنا؟ مع الأسف الشديد لدينا فوضى عارمة تحت ما يسمى بدورات تطوير الذات، وأصبح لدينا خبراء أقرب وصف لهم ب"تجار الشنطة " الذين يطلق عليهم بعض الظرفاء ب"تجار الحقائب التدريبية". فلا يوجد تأكيد على تخصصهم الذي يسمح لهم بإعطاء تلك الدورات، ولا هم دخلوا في موسوعة "هلكوني" للشهادات المزورة. أحدهم تقدم لوظيفة إدارية في مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني وكنت مسؤولاً عن المقابلات الشخصية فقرأت سيرة متقدم لهذه الوظيفة فوجدت في رأس الصفحة أنه خبير تطوير الذات ومدرب معتمد. فمن اعتمد مثل هذا أعطاه الحق غير الشرعي للعبث باسم التخصص. أعتقد أن حملة "هلكوني" التي أسميتها سلفاً بموسوعة "هلكوني" اتسعت على كل راتق إداري أو تنظيمي. ولكن الظاهر أنهم عرفوا اللعبة جيداً فوضعوا بينهم وبين ذلك الراتق التنظيمي ألف "مطوِّع " بكسر الواو والنظام.