انتقى الأديب الرائع غازي القصيبي رحمه الله (ت 1431ه) أبياتاً مفردة لمجموعة من الشعراء المبدعين وقام بقراءة كل بيتٍ منها بطريقته النقدية الخاصة والممتعة في كتاب جميل سماه (بيت)، في هذا الكتاب العديد من الأبيات الجميلة التي من غير المستغرب أن تلفت شاعرًا مرهفًا وناقدًا بارعًا كالقصيبي، ونجد من بين الأبيات بيتًا للشاعر جرير (ت 110ه) من الطبيعي أن يستفز القصيبي كما استفز كثيرًا من المتلقين قبله، يقول جرير في بيته الشهير: لو كنتُ أعلمُ أن آخر عهدكُم يومَ الرحيلِ فعلتُ ما لمْ أفعلِ ما الذي كان من الممكن أن يفعله جرير لو عَلم أن يوم الرحيل هو آخر عهده بمحبوبته؟! سؤال مشروع يقفز في ذهن كل من يقرأ أو يستمع لهذا البيت منذ قاله جرير إلى يومنا هذا، ولا شك أن القصيبي أحدهم، لذلك فقد وضع إصبعه بدايةً على سر نجاح هذا البيت وهو "أن قائله نجح في استثمار غريزة من أقوى الغرائز الإنسانية وهي الفضول"، ثم قام القصيبي بوضع احتمالات إضافية لما كان يُمكن أن يفعله جرير في حال علمه بما سيؤول إليه أمر صاحبته: "ربما قتل نفسه. أو قتل الحبيبة. أو قتل الحبيبة ثم قتل نفسه. وربما منعها عنوة من السفر. وربما بكى وأعول على الملأ. وربما أعلن الحب الذي كان يكتمه. وربما قرّر أن ينهي الحب. وربما عانقها أمام الناس... وربّما ... وربّما". هذا جزء من تعليق القصيبي عن البيت أنهاه بالجزم بأن شاعراً كجرير، يمتلك من الدهاء والمكر الشيء الكثير، لا بُد وأن يكون على معرفة مُسبقة بأن يوم الرحيل كان فعلاً هو آخر عهده بالحبيبة. بيت جرير نموذج مُميز للأبيات (الذكية) التي تستحق الاحتذاء من الشعراء الذين يكتبون أبياتًا (ميتة) أو تموت بمجرد خروجها من أفواههم، لأنها عاجزة عن استثارة أدنى ردة فعل إيجابية لدى المتلقي، أمّا بيت جرير فنجد في تراثنا الأدبي إشارات عديدة لقدرته على استفزاز المتلقين وتحفيزهم للتفاعل معه في عصور مختلفة، فقد أورد الأصبهاني في (محاضرات الأدباء) نادرةً تؤكد على أن البيت كان يستفز المستمعين في المجالس لذكر احتمالات جديدة ومُتنوعة، وفي هذا دلالة أيضاً على أن البيت يصلح –في نظري- كاختبار نقيس من خلاله درجة الخبث التي تنطوي عليها نفوس الناس من حولنا..! قبل أن أختم أود أن أنبه إلى احتمال آخر –لما كان من الممكن أن يفعله جرير- جاء على لسان أحد أحفاده، فقد ورد في (المستطرف) للأبشيهي أن عُمارة بن عقيل بن بلال بن جرير سُئل: "ما كان جدُك صانعاً في قوله: فعلتُ ما لم أفعلِ؟ قال: كان يَقلعُ عينيه حتى لا يرى مظعنَ أحبابه". فهذا الاحتمال الإضافي سيحظى بلا شك بإعجاب عشاق قصص الحب العذري بما تحويه من التزام وتضحية، وفي ذات الوقت هو محاولة جيدة من الحفيد لقطع الطريق على كل أصحاب النوايا الخبيثة ممن سيستفزهم بيت جدِه ..!