كنت حينها طفلة، مهيضة الجناح، في الحادية عشرة من عمري، وهي الفترة التي غزت فيها الحداثة بمختلف ألوانها وقياساتها بيوتنا وشوارعنا وأجسادنا وحتى مشاعرنا، لم أكن أفقه من كنه الحياة سوى ما نقش على جدران الصدف من خطوط ونقط ودوائر.. إلا أنه رغم حداثة سني فقد كنت كثيرة الإنصات، ألقي بالي لما يتحرك من حولي في صمت وتمعن، قليلة الكلام، شديدة الملاحظة، أراوغ الكبار لمجالستهم واستراق ما قد يقع من ألسنتهم بين نحري ومقلتي.. لم أكن أدري حينها أن حذاء أختي الكبرى ذا الكعب العالي الذي كنت أحمله خلسة لأضعه في رجلي الصغيرتين وأجره ما بين الغرفة والدهليز ذهاباً وإياباً مستحضرة تلك المشاعر التي تستشعرها الفتاة الصبية وهي في كامل شبابها وزينتها، ما هو إلا مظهر حداثي أرغمني على دك وصك رجلي الصغيرتين فيه رغم شساعة حجمه! أتراها كانت تلك الحداثة وهي تقتحم حداثة أعمارنا بسحرها الزئبقي؟ لترغمنا على الإبحار فيها دون قوارب نجاة! نعم.. كان ذلك، ولكن أذكر أيضاً أنه في تلك الفترة ذاتها كنت وبنفس الطريقة أتوارى عن الأنظار لأضع على رأسي خماراً لأختي الكبرى، وأظل وقتاً عسيراً أمام المرآة في تجشم، ألفه تارة يميناً وتارة شمالاً وتارة أخرى إلى الخلف، في عجب وتباهٍ يرسمان لي طريق الفضيلة بعيداً عن ملوثات الحداثة التي شطت وغالت في طحاها.. كَانَت الصحوة الإسلامية حينها في أوج انتشارها، لم أكن أدري حينها كذلك أن قبضة أناملي الصغيرة على طرف الخمار وأنا أضرب به على جيبي ما هي إلا فيح من تلك الصحوة الإسلامية التي عمرت العقول والبيوت تسلل إلى وجداني دونما انتباه منّي، بيد أنني شعرت خلاله بتصادم قوى التجاذب والتنافر تلك، المتناحرتين بَيْن سحر الحداثة ونوستالجيا الأصولية، كذلك كانت أختي الكبرى، وكذلك كانت "شريفة"، فكلتاهما كانت تترنح بين عبق المكان وسرعة الزمان، إلا أن إحداهما قد تغلبت على مكائد الحداثة والثانية سقطت ضحية لإغراءاتها ووعودها الزائفة. كان الجو لطيفاً، مشمساً في دفء يتخلله نسيم منعش، حينما وصلنا إلى القرية التي أزورها للمرة الأولى، وكانت أيضاً المرة الأخيرة، إنه عرس الابن البكر لأحد أشراف القرية، كان صديقاً للعائلة رحمه الله، ولفرحته بأول عرس لأبنائه كان لا بد من جمع الحشود المتفرقة لحضور الوليمة الشبه حداثية التي أعدها، فرغم أصالة منبعها فإن رذاذ الحداثة المرشوش عليها قد طمس بعضاً من ملامحها الأثيلة.. بيت فسيح بمرافق عدة تتزاوج فيه مظاهر الأصالة والعصرنة معاً، كالأمشاج أحياناً، قضينا الليلة هناك بعد أن زففنا العروس إلى بيت عريسها، كانت زفة ممتعة رضخنا فيها لتقاليد القرية وأعرافها.. لم يكن واضحاً لي جلياً في تلك اللحظات هل أنا من معازيم العريس أم العروسة، فالكل واحد هناك! في قرية صغيرة دانيها قاصيها وقاصيها دانيها، إلا أنني مشيت في موكب الزفّة مع النسوة وهن يسقن العروس مشياً على الأقدام نحو بيت عريسها، كانت تبدو أنها تغطيها الكثير من الملابس بكثير من الألوان في فلكلور صارخ يعكس تقاليد المنطقة وخصوصيتها الثقافية، وعلى مقربة من رأسها تطقطق أنامل النسوة على البنادر يرددن على ألسنتهن أهازيج وترنيمات بدوية احتفاء بتفتح الوردة ليلة سقياها. وصلنا إلى البيت الذي أعرف مرافقه جيداً، استبقت النسوة حتى أدخل الصالة التي ستحتضن العروس إلا أني وجدتها خاوية، لقد تم تجهيز غرفة أخرى لها، ولكن أين؟.. هناك حيث يتجهن بها، كنت أبسبس في سيري للوصول إليهن دون أن يفوتني مشهد، دخلن بها إلى غرفة واسعة حديثة البناء، جدرانها من السيراميك، ولكني أرى فيها حنفية! لقد كانت تلك الغرفة التي استقبلت العروس ما هي سوى مطبخ عصري! كان يعتريني شيء من الضحك البريء أحاول إخفاءه عن أعين النسوة، فالأمر بدا لي غريباً جداً لم أألفه من قبل، إلا أنهن كن منشغلات بالغناء والتصفيق والرقص وكنت أنا بين صكات أرجلهن وصيحات شفاههن سارحة سائحة في تبعات الحداثة، دون وعي مني بما تفكر به قريحتي.. لم يكن ذلك المطبخ الحديث والعصري الذي اقتحم البيت الكبير التقليدي مجرد استحداث ماكينة الطبخ بقدر ما شكل لهم مزاراً ومعلماً شرعت أبوابه لاستقبال تلاميذ الحداثة! كانت العروس مغطاة بلحاف تقليدي زادها عفة وصفاء، كنت أرمقها عن قرب، حينما تم رفع الغطاء عن وجهها، فكانت تظهر لي في ابتسامتها البنت الرشوف، والعروب التي تبهج النفس، والخجل يكسو محياها يكسره شيء من الفرح والحبور، إلا أن تلك الحداثة البغيضة التي اقتحمت المكان لم يسلم حتى جسد العروس من بعثراتها وفوضويتها تلك، حينما تدخل في صراعاتها ومجاكراتها مع التقاليد والأصالة! هو تماماً مثلما تتصارع فيه الملحفة التقليدية التي كانت ترتديها العروس مع كم الساعات الإلكترونية التي كانت بكلتا يديها.. كنت أقرأ ما في عينيها من سعادة وبهجة ضانة أنها فرحة الزواج، ولم أفهم حينها أن ما كان يعتريها من فرحة كان أيضاً من زفتها للحداثة وانتصاراتها على دوغمائية التقاليد.. فهي لم تزف إلى بيت عريسها وإنما زفت إلى الحداثة. كانت تحاول في كل مرة إظهار يديها الاثنتين في إعجاب، وكنت ألاحظ ما تحملان من ساعات يد في تعجب وحيرة، وأحسب عددها، كانت عشر ساعات بعضها إلكترونية وبعضها الآخر ساعات رقاص، لم أفهم لما هذا الكم الكبير من ساعات اليد، رغم أن الزمن واحد! أتراها غزوة الحداثة وقد غزت يدي العروس في غير انسجام مع أصالة ملحفها؟! ما السحر الذي تضمنته تلك الساعات الإلكترونية الكبيرة حتى باتت زينة في يدي العروس بدل الأساور الفضية والذهبية المعتادة؟! إنها الحداثة التي اقتحمت مجال الجسد لترديه جسداً حداثياً في تمثلاته وتصوراته، رغم الفوضى العارمة واللانسجام.. عاودتني الهلاوس مرة أخرى إلا أن إحداهن قد شدها الانتباه نحوي لتشفنني شفنا جعلني أحشحش من مكاني رويداً رويداً.. فالحيرة كانت شديدة عليَّ ولم أعِ حينها تمام الوعي أن بعبع الحداثة قد بدأ يفتك بالعقول والأجساد ليدخلها عالم الفوضى الخلاقة! هكذا دخلت الحداثة وتوغلت في ثنايا الحياة التقليدية للقرويين، فكما شكل التلفاز آنذاك سحراً لأهل القرية الذين كانوا يزورون هذا البيت الكبير لمشاهدة الأجسام المتحركة عبره كذلك هم اليوم يزفون ابنتهم حيث يتربع السيراميك العصري بين جُدران البيت العتيق، وحيث يبدو لهم أن المطبخ بعصرنته يفوق الصالة الكبيرة جمالاً وسحراً.. فهكذا حينما تتحدى الحداثة رغم قلتها جبروت وفساحة الأصالة، وهكذا حينما تقتحم الحداثة نسق الأعراف والتقاليد الراسخة منذ أمد لتزعزع ثوابتها في حالة من الهيجان والانفلات؛ لتبدو الصورة على غير عادتها تتداخل فيها مكونات الأصالة والعصرنة معاً في حالة من الفوضى الحداثية والتي جعلت ملامحنا مشوهة وغير مفهومة! في الصباح الباكر، حيث استيقظنا على صوت الديك يصيح بأعلى السطح ورائحة الطعام الزكي تنبعث من ساحة البيت الكبير.. كان فطور الصباح مميزاً بالنسبة لي لم يصادف أن تذوقت مثله من قبل، قطع اللحم الكبيرة المطبوخة على البخار، مع قطع البصل الطازج، والفطير المبلل بالسمن البلدي، كانت رائحة الأصالة تعج الأكل عجاً، وهو على ما يبدو ما جعلني أبقى لليوم حبيسة ذلك المذاق الطيب لفسيفساء الطعام البلدي الذي لم تقتحمه بعد فيروسات الحداثة تلك! وكأن صياح ذلك الديك كان إعلاناً عن يوم جديد يحمل معه إرهاصات حداثية جديدة، كان يوماً هادئاً عكس البارحة، نزلنا فيه إلى حيث الأسفل؛ حيث بساتين التفاح تملأ المكان، واللون الأخضر يستولي على الزمان، أتساءل الآن وأنا أكتب هذه الكلمات وبعد كل ما فات من السنوات: هل لا يزال ذلك الأخضر بخضاره الذي رأيته عليه أول مرة، أم اكفهر وجهه واصفر لونه وهزل عرقه؟! هل اخترقت الحداثة بعد رحيلي منه زغب العشب المتناثرات وكسرت ظلال الأشجار الباسقات؟!.. كنا نجول ونصول في البساتين الخضراء نداعب التفاح الأخضر بأناملنا، نقطف منها ما اشتهته النفس ورغب الفؤاد، كنت أشتم في كل خطوة أخطوها هناك رائحة الأصالة، وكانت نفسي تسعد كلما مررت بطريق وعر بين نباتات الصبار وصخور التلال مستشعرة أصالة المكان وبساطة الزمان. كنا أطفالاً نلعب ونرتع، وكانت معنا بعض النسوة والفتيات يحملن القِرَب والأوعية الفخارية لتعبئتها من منبع المياه، كان المنظر في مجمله فرعونياً بالنسبة لي، ضخماً بتجلياته، اشتملت فيه صور الأصالة بكل أبعادها الزمكانية، وكانت ضمن الفتيات أخت العريس "شريفة "، كانت على خلاف الأخريات من الأتراب تجسد أيقونة الحداثة في محيطها التقليدي، كنت ألاحظ فيها قوتها ونفوذها الطاغي على الأخريات، كيف لا وهي ابنة أشراف القرية والمشرفة على مسرح الحداثة بقريتها، لم تكن تبدو كأترابها فهي التي لبست ثوباً حداثياً مختلفاً وداست على مكابح سيارتها في الطريق الوعر ما بين قريتها والمدينة، كانت غريبة في قريتها، امرأة تقود سيارة في بيئة جد منغلقة! من يتقبل ذلك؟! بينما كانت الحداثة تسرق المسافات والمساحات المطوية كي تندس بين طياتها لتعبر نحونا ها هي الآن تجاكر بقوة تقاليد المكان والزمان، كانت شريفة تأتي بسيارتها إلى المدينة لزيارتنا، وكانت بالمدينة حيث أسكن أختي الكُبرى هي أول امرأة قادت سيارة بمدينتنا، تماماً كما كانت شريفة هي أول امرأة تسوق سيارة بقريتها، فكانتا تجسدان معاً صورة ملونة للمرأة الحداثية! كانت خطوط الصدف ودوائرها ونقطها توحي إليَّ بأن هذه الفتاة الحداثية هي مطمع شباب القرية، كانت لطيفة وودودة، ورغم حداثة سني فإني لمحت فيها الرغبة الملحة في الزواج، كلما تحركت فيها غريزة الأنوثة والأمومة معاً، كنت أسمع النسوة من الأهل يمنين النفس بزواجها بعنترة القرية وكنت أرى فيها ذاك.. إلا أنني لم أتوقع يوماً أن شريفة ستدفع ثمن حداثتها تلك، فهذه الحداثة التي لا تبقي ولا تذر قد غيرت حتى مسار المشاعر، كنت في ذلك العرس أسمع همهمات النسوة يتغنين بمحاسنها كما كنت أرمق نظرات شباب القرية لها وهي متجهة نحو مورد المياه في استحياء ووجل، إلا أن الأمر تغير، والمشاعر تغيرت، وباتت الفتاة ضحية تلك الحداثة المتسارعة، يوماً بعد يوم ومع اشتداد تعلقها بالحداثة كانت بالمقابل تخسر أشياء وأشياء، بل باتت الحداثة وصماً يرهقها، لم تعد تملك تلك المشاعر المحاطة بها من كل جهة، فلا العنترة أصبح يطلبها ولا النسوة يمدحنها.. فكانت تكبر مع الأيام وهي تسابق انتصارات الحداثة عليها.. ترى هل غالت وشطت شريفة بعيداً باحتكاكها بالحداثة لدرجة أفقدها ذلك سحرها الأصيل؟ هل سحر الحداثة الذي أبهر بالأمس أهل القرية قد زال وتحلل مع مرور الأماسي والليالي؟! أدركت مع الأيام أن تلك الفوضى التي عمت المكان رغم طقطقتها القوية لم تهزم أصالة الزمان، بيد أن كل ما فعلته هو أنها غيرت مسار مشاعرنا حينما غزت الأشخاص فغيرت فيهم ملامح أحببناها رغم بساطتها؛ لنجد أنفسنا بعد ذلك الغزو الغاشم لهم قد فقدنا ما كنا نشعر به تجاههم.. بسبب الحداثة، التي لم تأتِ إلا بعكس ما توقعناه منها، حتى المشاعر. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.