×
محافظة المنطقة الشرقية

وج والمزاحمية إلى دوري الدرجة الثانية

صورة الخبر

بالسنة الأولى قلَبَ «الربيع العربي» المشهد السياسي العربي متوجهاً لحركات الحقوق المدنية, ثم انقلب الوضع لحركات الإسلام السياسي وبدا أنها تقود المشهد, لكنه انقلب أيضاً وأصبحت تلك الحركات تواجه أزمة حادة.. يبدو أنه من المبكر الحكم على نتائج هذا «الربيع».. يمكن رؤية هذه التقلبات كاختصار للتحولات بموقع حركات الإسلام السياسي منذ بدء الجهاد الأفغاني حيث مرت العلاقة بين هذه الحركات وبعض الدول العربية من حالة توجس إلى حالة توافق نسبي بالمصالح, إلى مرحلة عدم تعارض المصالح, ثم انتقلت إلى تعارضها.. والآن تحولت إلى تهديد وجودي للدولة الحديثة في مرحلة يُنظر إليها من قبل ساسة الدول كإعادة اكتشاف لحركات الإسلام السياسي باعتبارها مهدداً لكيان الدولة. ترافق مع ذلك حملة ضخمة من كثير من المؤسسات الإعلامية والثقافية وكأنها تعيد اكتشاف تكتيك وإستراتيجية تلك الحركات.. حركات الإسلام السياسي صعدت متكئة على سندين: أولاً جاذبية خطابها الديني المُسيَّس عاطفياً لدى نسبة كبيرة من الجماهير العربية التي (وهذا ثانياً) ملَّت من فشل الحركات المدنية, وزاد الطلب على الخطاب المتشدد دينياً وسياسياً, وصارت تتفرخ حركات وأحزاب ودعاة تلبية لهذا الطلب. لكن الطلب على الخطاب شيء والتعامل الواقعي مع إدارة الدولة الحديثة أو قيادة معارضتها شيء آخر, وفي الذاكرة الطلب الجارف على الخطاب القومي. فكيف أدار الإخوان المسلمون الدولة بتونس ومصر بالسنة الأولى التي أتوا بها عبر شرعية النظام «الديمقراطي الليبرالي»؟ الواقع أنهم كانوا في حيرة بالبداية.. إن رفضوا النظام واستحوذوا على الدولة فسيقضون على الشرعية التي جاءت بهم لسدة الحكم, وإن انقادوا له فسيقضون على مضمون إيديولوجيهم! فأي الطريقين سيختارون؟ الديمقراطية ليست في أجندتهم, بل إنها في تاريخهم الفكري بدعة وضعية؛ لكنها طابت لهم مرحلياً بسبب توجه جماهيري لخطابهم ليس نتيجة لنجاحهم بل لفشل الآخرين. أما حماية الحريات فخطابهم غير معني بها. فبأي الطريقين سيمضون: الدولة الحديثة أم الدولة القروسطية؟ من الناحية اللفظية إعلامياً لم يجب الإخوان المسلمون الحاكمون بوضوح حول موقفهم من النظام «الديمقراطي الليبرالي» الذي أتى بهم؛ وبالمقابل لم يجيبوا بوضوح حول إيديولوجيتهم الإخوانية.. فماذا يريدون بالضبط؟ مثلاً, لو أن الغالبية صوتت ضد خيارهم هل سيستمرون بالديمقراطية أم سيخرجون من نظام الدولة ويكفرون المجتمع المسلم كما فعلوا من قبل؟ ولو أن الغالبية صوتت معهم فهل سيحترمون حقوق الأقلية كمنافس يمكن أن يحكم لاحقاً أم يصادرونها ويستحوذون على الدولة حسب مضمون إيديولوجيتهم؟ الإجابة الواضحة لن تجدها. هذا أفضى بالإخوان إلى مجال المحاولة على طريقة «التجريب والخطأ», لكن الخطأ هنا كارثي.. ستجد أنهم من الناحية السياسية ركزوا في الاستحواذ على مؤسسات الدولة عبر مفهوم خاطئ بأن الديمقراطية الليبرالية تعني الانتخابات فقط بينما هي إضافة إلى ذلك محكومة بالقانون وفصل السلطات, وحماية الحقوق والحريات.. وستجد أنهم من الناحية الاقتصادية اختاروا السير مع واقع الحال المتأزم الذي أمامهم عبر عملية تسيير أعمال كيفما اتفق لجماعات معارضة رأت نفسها فجأة تقود دولة وترفض مشاركة الآخرين رغم ما يتطلبه الوضع الجديد من مشاركة كافة القوى الفاعلة للتوافق على البناء الجديد! لذا, فإن الذي حدث في مصر هو أن الأمر الواقع سرعان ما انقلب عليهم, بينما في تونس كانت قيادات حزب النهضة من الحصافة لتستفيد من الدرس المصري, وامتزجت بالدولة الحديثة واقتنعت بمشاركة الآخرين.. المفهوم الذي أظهره «الربيع العربي» حتى الآن, هو ديمقراطية انتخابات فقط بلا ضمانات حقوقية.. انتخابات قد تفضي إلى استبداد باسم الأكثرية حين تكون دون حماية للحريات, وبلا استقلال المؤسسات الرسمية والمؤسسات المدنية, حيث صار يٌفهم بأن الفائز بصناديق الاقتراع يتحكم بكافة مؤسسات الدولة وليس الحكومة, كما حصل في مصر عندما صار الرئيس المنتخب يتدخل بصياغة الدستور وتعيين النائب العام والقضاة ومسائل لا تخصه حسب النظام الذي انتخبه. قد يقال: إن النظام الحالي الذي انقلب على الإخوان ليس بأحسن حال ديمقراطي, هذا صحيح لكنه لم يأت بشرعية ديمقراطية بل أتى بشريعة ضرورة أمنية لواقع متأزم, وبشرعية المؤسسات السيادية بالدولة وأيدته المؤسسات الدينية الرسمية وأغلب المؤسسات المدنية مدعومة بالاحتجاجات الجماهيرية العارمة مشابه لشرعية «الربيع العربي» التي أسقطت النظام القديم. وقد يقال: إن الإخوان لم يفشلوا ولم تتح لهم الفرصة الكافية إنما تكالبت عليهم القوى المحلية والخارجية لكن هذا القول يتضمن عدم واقعية الإخوان حين تنافروا مع هذه القوى.. وفي تونس التي تتقدم نسبياً على مصر في مسألة المؤسسات, حدثت أمثلة مشابهة, ولطالما ظهر راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة الإسلامية في مؤتمرات صحفية بالسنة الأولى بعد الانتخابات يصدر تعليماته للحكومة وللدولة رغم أنه بلا موقع رسمي في الدولة بل من خلال نفوذه كزعيم لحركة تحكم, هذا النفوذ طبيعي لكنه مضاد لنظام الدولة.. إنما حركة النهضة تداركت الوضع وتجنبت ارتكاب خطأ الإخوان في مصر.. أما حركات الإسلام السياسي التي لم تصل للحكم فإنها فقدت كثيراً من شعبيتها حين صارت تتصارع فيما بينها رغم أن لها نفس الخطاب والأفكار والأهداف, كما نجده في العراق وسوريا على سبيل المثال. وحتى في مصر فإن حزب النور السلفي الذي كان حليفاً للإخوان صار من أوائل من تخلى عن الإخوان وأيد العسكر.. ومشابه لذلك بطريقة عكسية في تونس حين وقف حزب النهضة ضد الحركات السلفية. فإذا كانت الأحزاب الإسلامية غير قادرة على الانسجام مع بعضها فكيف لها أن تنسجم مع أضدادها ومخالفيها تحت راية الديمقراطية, وكيف ستطمئن الأقليات والتيارات الأخرى لها في بلدان تعددت فيها الطوائف والتيارات! يبدو أن أغلب حركات الإسلام السياسي الحالية وصلت إلى مرحلة التناقض مع النظام الأساسي للدولة الحديثة مما جعلها في مواجهة طبيعية -وربما حتمية- مع مؤسسات الدولة وكافة المؤسسات الفاعلة الحكومية والمدنية. ويبدو أن ذلك أهم عامل جعل هذه الحركات تواجه أزمة حادة هي الأكبر منذ بداية ظهورها, وستورطها فيما لا قدرة لها به ما لم تستفد من أخطائها ويحصل لها تغيير بنيوي يتلاءم مع نظم الدول الحديثة.