الفن العراقي المعاصر بقي أسيرا لأمراض اجتماعية مكنت الغالب من مدعي الفن من الظهور، فتشكلت صناعة لوحة استهلاكية أفقدت قيمة اللوحة الحقيقية الحضور.العرب خضير الزيدي [نُشر في 2017/03/12، العدد: 10569، ص(14)]أعمال عراقية معاصرة لا توجد حركة فنية أثارت اهتمام المشهد العربي مثل التجربة العراقية. عبر تمثيلها للفن المعاصر، واستطاعت أن تصنف لأجيال ومدارس وأسماء بارزة متأثرة بمحيطها البيئي وموروثها التراثي. وأحدثت تجربتا الستينيين والثمانينيين صخبا في توجهاتهما الشكلية من جهة وكيفية تطبيق المعايير الجمالية من جهة ثانية. استند الستينيون لخطين متوازيين. الأول اتخذَ من التراث والتاريخ وتوظيف المحلية مرتكزا لخطابه التنظيري والتطبيقي، فيما امتدت وتوسعت رقعة التجديد والترويج للحداثة في متغيرات اللوحة والخطاب الصوري للقسم الآخر من ذلك الجيل. أما فنانو الجيل الثمانيني فلهم سطوة مهمة صنفت على أسس تحديث اللوحة والمهارة الأسلوبية واستثمار التشكيل في مهمة خارجة عن حدود الالتزام بوصايا الآباء. واجتهد الكثير منهم بموازاة ذلك لتحقيق أفكارهم داخل منظومة العمل الفني وحسم أمرهم بأنهم جيل مثابر واجه المخاوف في مدونات بصرية وتطلب الأمر منهم السعي للتكيّف مع نمط وأسس الحداثة وتم طرح تصوراتهم الأسلوبية وتعددت توجهاتهم فوق سطوحهم التصويرية وأغوتهم أنماط الحداثة ليتابعوا السير باتجاه توفير علامات تنثر أفكارهم في أشكال مختلفة ووحدات صورية غائرة في العمق والمقاربات البصرية، سواء عبر التشخيصية أو التجريد الخالص. ومع هذا تبدو حقائق ووقائع المشهد الفني اليوم أكثر مأساة تجاه راهن الفن العراقي، فما الذي تغير؟ وما هو موقف النقاد مما يطرأ على الفن؟ وما الذي يتضح لنا من غرابة داخل منظومة الفن العراقي، ثم ما هو دور اللصوص في خسارة سمعة الفن العراقي؟ مع ظهور التجربتين الستينية والثمانينية امتد خط نقدي يواكبهما. لم تكن معايير النقد التطبيقي حاضرة إلا في حدود قليلة من بعض النقاد وكان لدور السلطة حينها تأثير في بروز أسماء وغياب أخرى، مستندين على مبادئ وقيم أيديولوجية السلطة المركزية في طباعة العديد من المصادر والكتب. ورافق ذلك الترويج السياسي للفن خط خجول منكفئ على ذاته ينظر لبعض الفنانين المجددين ليكتب عنهم أينما وجدت فرصته للظهور. ومع هذا ثمة مناخ جمالي لا تتحكم به معايير العرض والطلب ولم يحضر بالطريقة التي يتم فيها اليوم لمكاشفات العمل وبيان حقيقته الجمالية والأسلوبية. نعم تغيّرت الذائقة واكتسحتنا العولمة وأصبح الفن هامشيا حيال متغيرات بنيوية ربما قابلة للمقايضة وتمكن الكثير من مدعي الفن من أن يدخلوا متسلحين بصناعة وأدوات وهمية وتمكين أكاديمي كاذب من الظهور وآلت نتائج حضورهم المرعب إلى تزوير لوحات فنية لأسماء من الجيل الستيني مثلما حدث مع أعمال فائق حسن وجواد سليم وآخرها لوحة لعاصم عبدالأمير عرضت في مزاد عالمي بعد أن وضعت باسم الفنان كاظم حيدر. هذا الفعل يذكرني بقسوة التزوير وبمن ولدوا لصوصا في سوق (الكرادة الفني). فما إن تمكن هؤلاء من فهم اللعبة وتطبيقها بالشكل السليم حتى غيّروا وجهتم للانتقال باتجاه الفن التعبيري والتجريدي معا، فهل هذه مشكلة حقيقية؟ هذه واحدة من المشاكل الكثيرة التي جعلت الفن العراقي اليوم يحتضر وطبعا لم تكن غائبة عن معرفة النقاد العراقيين وكان لصمتهم تشجيعٌ بالخفاء جراء مقايضات مادية، وللأسف حال غياب وسائل التقدم العلمي لكشف اللوحة وتاريخ موادها من اتساع الهوة، فنشأت علاقة اضطراب بين الثقافة الحقيقية وثقافة التزوير وللأمانة انحسرت الحقيقة هنا دون الإشارة إليها وأصبح حضور اللوحة المخيفة والمسروقة والمزورة شاخصا للعيان، وبالتأكيد المسؤول الأول عن كل هذا غياب النقد الموضوعي المبني على الأسس العلمية الرصينة التي تقوّم إضاءة الفن أما السبب الآخر فيكمن في طريقة التعامل الاجتماعي الغريب بين الفنانين المبني على المحاباة والمنافع الشخصية.النقاد العراقيون صمتوا على صناعة الغش هذه الحقيقة المؤلمة وفرّت جوا للآخرين ليتمكنوا من تقليد بعضهم وكانت متغيراتهم الأسلوبية تنمّ عن ردة فعل استهلاكية وبصياغة فنية غير مبنية على تعامل ثقافي ووجه فني قابل للتغير الطبيعي، فانحاز السراق لتجسيد ملاحم فنية من الكذب وتم تطبيق ذلك وفقا لمعارض شخصية أو جماعية. ومع أن الكل يعلم بنوايا الأفراد إلا أن النفاق الاجتماعي سيطر على كشف وقائع التناول الفني السليم، فبقى الفن العراقي المعاصر أسيرا لأمراض اجتماعية مكنت الغالب من مدعي الفن من الظهور، فتشكلت صناعة لوحة استهلاكية أفقدت قيمة اللوحة الحقيقية الحضور لتشارك حيث معارض الدول العربية والغربية، وبات الهمس مسيطرا على المتحدثين من جدية ما يعرض أمامهم من أعمال متنوعة قابلة لتمزيق تاريخ فني بأسره، فمن المسؤول عن ذلك؟ هناك تشخيص يبدو منطقيا حينما تحال الأسباب الخارجية إلى بورصة الفن وعملية غسيل الأموال التي تتبناها مؤسسات وأشخاص بعضهم من مروجي الفن والبعض الآخر أسماء فنية مهمة تنشط في رحلاتها بين دولة وأخرى.. أما داخل العراق فقد كان لغياب قاعات العرض المهمّة والمحافظة على تقديم فن جاد الأثر الواضح في ظهور أعمال تافهة ولا تستند لمعايير جمالية وذائقة فنية روّجت لها في الظهور لتساهم في محافل متنوعة، مما أفقدها رؤية تجديدية سليمة تنهض بالفن وتمدنا بمنجز فني يثري بفرادته مساحة الغموض والتشويه القائمة الآن وكان لعامل غياب اللجان المختصة من نقاد وفنانين لتشخيص أهمية الأعمال التي ستعرض لتمثيل الفن العراقي عالميا وعربيا دور في ركود الإبداع. هذه الأسباب تشكل حاجزا متينا وصلبا بين الفن الجاد المبني على أسس جمالية يتبناها فنانو الداخل أمثال شداد عبدالقهار وهاشم تايه وكاظم نوير وعبدالكريم خليل وعلي رسن وعامر خليل مع أسماء من خارج العراق أمثال هناء مال الله ونزار يحيى وغسان غائب ووليد رشيد وسلام عمر ومظهر أحمد وصادق كويش وعمار داوود، ليقفوا بحضورهم الفعلي أمام جدار اللصوص والسراق في مواجهة حقيقية لتمثيل الفن الخالص، ساعين إلى كسر رتابة ما يحدث في المشهد العراقي فنيّا وجماليا ضمن مقدرات شخصية، انسجمت رؤاهم أو اختلفت، في مشروع فني إلا أن النتيجة تلمست تطابقا في التوجه لإحياء الفن العراقي وإزالة شوائب النحس من طبقاته. هذا التلاعب بقيم وتصورات الفن المعاصر لم يجرؤ نفر من النقاد العراقيين على بيان أسبابه ودخلت مخلفات صناعة الغش وتمييع الذائقة في لجم العين، فأصبح الفن مشوّشا يسير للمجهول وكأنه منظم ومأخوذ للتيه بعيدا عمّن يمجّد العودة لإحيائه ولو بعد حين، فهل حققت نبوءتها مقولة آندي وارهول زعيم حركة البوب آرت الفنية “أن ربح المال هو الفن”؟ كاتب من العراق