حين رأيت الناس قد شمّروا وتركوا دورهم وهمّوا بالفرار بأرواحهم وبنيهم خوفاً من الموت تحولقت أسفاً إلى ما ألنا إليه في القرن الواحد والعشرين وكأنّ الزمن لم يتغير بتغير الطغاة والدكتاتوريين ! رأينا تلك الصور في الحرب العالمية الثانية وكيف شُرّد الآلاف من منازلهم وهُدّمت فظننّا أن ذاك زمن ولّى لاعودة إليه حيث أن الإنسان أصبح أكثر وعياً وتحضراً وثقافة فإذا بنا نصطدم بواقع هو أشبه بالحلم وإذا بالطغاة يزدادون وبأثر رجعي يعودون بزبانية أشد وطأة من آبائهم الأولين فيرقصون على قبور موتى شيدتها بنادقهم ويتفاخرون بزيادة رصيد المدن من المقابر ! ازدادت الكراهية حتى أصبحت المصطلحات متشظية أكثر والمسميات التي نخجل أن نذكرها ونتداولها من طائفية وعرقية نلوكها بألسنتنا كاللبان ونمضغها كالطعام تولدت مصطلحات جديدة داخل كل مصطلح كالقبائلية والمناطقية وو.. الخ ! الكل يفر ويهرب أمام الموت وهذه سنّة ! في المعركة وفي البيت والشارع والصحراء وفي كل مكان ، قال تعالى : ( أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيّدة ) فقام بعض البشر بتطبيق ذلك الحكم ونسوا تفسير الآية الكريمة أن الموت مدرك كل الناس ولا مفر منه لأنه مآلهم في نهاية الأمر إلى ذلك ولكن بعد حياة طويلة إذا شاء الله وليس بالقتل والفناء السريع فعادوا وقالوا : من لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد فاستبدلوا السيوف بالقنابل والرشاشات والبراميل المتفجرة وقالوا : هذه بتلك ! وحتى يكون الموت أرحم بالسرعة تطبيقاً للحديث الشريف ( .... وارح ذبيحتك ... ) وتناسوا أن المقصود بهيمة الأنعام وليس من كرّمه الله ! لا تعجب ! حين ترى من يستدل بذلك لتبرير أفعاله المشينة بقتل الناس وتهجيرهم لضغينة أو حقد ! لذلك يهربون من الموت قبل أوانه وخوفاً من مفاجأته ! فالهروب منه غنيمة كما يقال ! راهن جرير أمام أصحابه الفرزدق والأخطل حين ذكر الموت الذي لا يُغلب فكسب : أنا الموت الذي آتي عليكم فليس لهاربٍ مني نجاءُ وقد أخطأ المتنبي خطأً كلفه حياته حين أذعن لعبدِه واتخذ القرار الخاطئ ولو عاد مرة أخرى لآثر الهرب والنجاة وهو محق فحينما حاول الفرار من أمام ضبة العيني وأصحابه بينما هو وابنه عيّره عبدَه بالجُبن قائلاً : كيف تهرب وأنت القائل : الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم فقال : قتلني العبد ! فرجع وقُتل ! فحين لا تتعادل الكفّة في المعركة يكون الفرار ذكاء وشجاعة فخالد بن الوليد حين سحب جيوش المسلمين في معركة مؤتة لم يجد بدّاً من ذلك عندما رأى كفة الروم ترجح بأعداد مهولة والمسلمون يتساقطون فعُدّ انسحابه نصراً لأن العدو خُيل إليه أن المسلمين يزدادون بطريقة عسكرية فذّة ! نجوت نجاة لم ير الناس مثله كأني عقاب عند تيمن كاسر ! - زياد السبيت